وقال تعالى: ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ [الأعراف: 32]. تحميل كتاب وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور PDF - مكتبة نور. وقال الله تعالى: ﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ﴾ [القصص: 77]. إلا أن الإنسان غالبًا ما يترك العمل للدار الباقية، ويجعل الدار الفانية أكبر همه، فيجعل العمل كله لدنياه دون آخرته، لذلك تضمَّن الكتاب والسنة توجيه المسلم في هذه القضية وتذكيره بحقارة الدنيا، وقِصَر عُمر أهلها فيها، وهذه حقيقة نسيها الإنسان أو تناساها، وسيشعر بها ويدركها، لكن بعد فوات الأوان؛ قال الله تعالى: ﴿ قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [المؤمنون: 112 - 114]. يسأل الملك خازنُ النار أهلَ النار يوم القيامة: كم لبثتم (وبقيتم) في دنياكم؟ يجيبونه بأنَّهم بقوا فيها يومًا واحدًا أو جزءًا من يوم، فاسأل العادين، فاسأل غيرنا من الذين يعرفون العد، أما نحن فإنا مشغولون بالعذاب، فلا يَدَع لنا ما نقاسيه مجالًا لنحسب عدد أيامنا في الدنيا.
أقام الله أمور الدنيا على سنن وقوانين لا تحابي أحدا، ولا تفرق في الجملة بين مؤمن وكافر فمن أتى بها حصل مراده ونال مقصوده، ومن قصر فلا يلومن إلا نفسه. { يَاقَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ. وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} [غافر:39]. وكم سبب الخلل في فهم حقيقة الدنيا والآخرة، وعدم إدراك الفرق الهائل بينهما من شبهات وإشكالات، ووساوس وأمراض قلوب، ونكوص على الأعقاب، واعتراض ظاهر أو خفي على الرب وأقداره، وربما وصل الحال بالبعض أن ينسلخ من الدين بالكلية عياذا بالله. وقد شاء الله أن تكون الدنيا دار امتحان واختبار وبلاء، وليست دار جزاء، ولا حكم بين العباد، ولا فصل بينهم فيما هم فيه يختلفون، وأنواع الابتلاءات متعددة ومتنوعة، وليست قاصرة على الشر والمحن والمصائب فقط، بل قد يبتلى الله العبد بالخير والنعمة والمال والولد، كما قال تعالى: { وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35]. إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ - أحمد قوشتي عبد الرحيم - طريق الإسلام. كما أن الناس بعضهم لبعض فتنة، وموضع اختبار وامتحان: { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان: 20].
قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: ﴿ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾: وقال مالك بن دينار: لو كانت الدنيا من ذهب يفنى والآخرة من خزف [1] يبقى، لكان الواجب أن يؤثر (ويفضل) خزف يبقى على ذهب يفنى، فكيف والآخرة من ذهب يبقى، والدنيا من خزف يفنى. وقد أخبرنا سبحانه أنه لولا أن يكفر الناس جميعهم، لجعل لكلِّ من يكفر به ويعصيه سقف بيته من فضة، ولجعل له زخرفًا؛ أي: ذهبًا؛ قال الله تعالى: ﴿ وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [الزخرف: 33، 35]. ولو فعل الله هذا، لَما آمَن به من أحدٍ، ولصار الناس على اختلاف مذاهبهم أمة واحدة على الكفر، وعن المستورد بن شداد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليمِّ (أي: في البحر)، فلينظر بِمَ ترجِعُ؛ رواه مسلم.
وَمَا الحَياةُ الدُّنيا إِلّا مَتاعُ الغُرورِ | خواطر مفاتيح الخير | حلقة 25 - YouTube
وفي الحديث الذي رواه البخاري، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قيد سوط أحدكم في الجنة، خير من الدنيا ومثلها معها)؛ (أي: طول ذراع من أرض الجنة خير من الدنيا مرتين). وروى ابن حبان في صحيحه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: موضع قدم في الجنة خير من الدنيا وما فيها. وفي رواية للطبراني قال صلى الله عليه وسلم: لموضع سوط في الجنة خير مما بين السماء والأرض.
ومع ذلك فمن رحمة الله بعباده الموحدين أنه لم يحرم عليهم الطيبات، ولم يمنعهم مما حل من الملذات، بل أباحها لهم، { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:32]؛ وقد أحل الله لعباده بالتمتع بها دون إسراف ولا مخيلة { كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} [الأعراف:31]. وقد أقام الله أمور الدنيا على سنن وقوانين لا تحابي أحدا، ولا تفرق في الجملة بين مؤمن وكافر فمن أتى بها حصل مراده ونال مقصوده، ومن قصر فلا يلومن إلا نفسه وفي قصة ذي القرنين عيرة وعظة { إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا؛ فَأَتْبَعَ سَبَبًا} [الكهف:84-85].