وجعلناكم امة وسطا

ولما جعل الله هذه الأمة وسطاً، خصها بأكمل الشرائع، وأقوم المناهج، وأوضح المذاهب، كما قال تعالى: { هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين} (الحج:78). تفسير: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا). ولسائل أن يسأل: لِمَ اختير لفظ (الوسط) على لفظ (الخيار)، مع أن هذا هو المقصود؟ فالجواب من وجهين: أحدهما: التمهيد للتعليل الآتي، وهو قوله سبحانه: { لتكونوا شهداء على الناس}، فإن الشاهد على الشيء، لا بد أن يكون عارفاً به، ومن كان متوسطاً بين شيئين، فإنه يرى أحدهما من جانب، وثانيهما من الجانب الآخر، وأما من كان في أحد الطرفين، فلا يعرف حقيقة حال الطرف الآخر، ولا حال الوسط أيضاً. ثانيهما: أن في لفظ (الوسط) إشعاراً بالسببية، أي: أن المسلمين خيار وعدول; لأنهم (وسط)، ليسوا من أرباب الغلو في الدين المفرطين، ولا من أرباب التعطيل المفرطين، فهم كذلك في العقائد والأخلاق والأعمال. وقال بعضهم: المراد بـ (الوسط) هنا: العدل، واستدلوا لذلك بقوله تعالى: { قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون} (القلم:28)، أي: أعدلهم. واستدلوا بما رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: { وكذلك جعلناكم أمة وسطا} قال: ( الوسط) العدل.

تفسير: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا)

قال ابن جرير الطبري في تفسير الآية: " فمعنى ذلك: وكذلك جعلناكم أمة وسطاً عدولاً شهداء لأنبيائي ورسلي على أممها بالبلاغ أنها قد بلغت ما أمرت ببلاغه من رسالاتي إلى أممها, ويكون رسولي محمد صلى الله عليه وسلم شهيداً عليكم بإيمانكم به, وبما جاءكم به من عندي " انتهى. "جامع البيان " (2/8). وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية: " والوسط ههنا الخيار والأجود, كما يقال: قريش أوسط العرب نسباً وداراً أي: خيارها, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطاً في قومه, أي أشرفهم نسباً, ومنه: الصلاة الوسطى التي هي أفضل الصلوات وهي صلاة العصر كما ثبت في الصحاح وغيرها... ( لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) قال: لتكونوا يوم القيامة شهداء على الأمم ، لأن الجميع معترفون لكم بالفضل " انتهى باختصار. "تفسير ابن كثير" (1/181). ص171 - كتاب التوضيح لشرح الجامع الصحيح - باب قوله ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة الآية آل عمران - المكتبة الشاملة. وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " ومن فوائد الآية: فضل هذه الأمة على جميع الأمم ؛ لقوله تعالى: ( وسطاً). ومنها: عدالة هذه الأمة ؛ لقوله تعالى: ( لتكونوا شهداء على الناس) ؛ والشهيد قوله مقبول. ومنها: أن هذه الأمة تشهد على الأمم يوم القيامة ؛ لقوله تعالى: ( لتكونوا شهداء على الناس) ؛ والشهادة تكون في الدنيا ، والآخرة ؛ فإذا حشر الناس ، وسئل الرسل: هل بلغتم ؟ فيقولون: نعم ؛ ثم تسأل الأمم: هل بُلِّغتم ؟ فيقولون: ما جاءنا من بشير ولا نذير ؛ ما جاءنا من أحد ؛ فيقال للرسول: من يشهد لك ؟ فيقول: ( محمد وأمته) ؛ يُستشهدون يوم القيامة ، ويَشهدون ؛ فيكونون شهداء على الناس.

تفسير الميزان - السيد الطباطبائي - ج ١ - الصفحة ٣١٩

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنت بما تقول ". فقال الرجل: الله أعلم بالسرائر ، فأما الذي بدا لنا منه فذاك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " وجبت ". ثم شهد جنازة في بني حارثة ، وكنت إلى جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال بعضهم: يا رسول الله ، بئس المرء كان ، إن كان لفظا غليظا ، فأثنوا عليه شرا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعضهم: " أنت بالذي تقول ". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وجبت ". قال مصعب بن ثابت: فقال لنا عند ذلك محمد بن كعب: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قرأ: ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) ثم قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه. تفسير الميزان - السيد الطباطبائي - ج ١ - الصفحة ٣١٩. وقال الإمام أحمد: حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا داود بن أبي الفرات ، عن عبد الله بن بريدة ، عن أبي الأسود أنه قال: أتيت المدينة فوافقتها ، وقد وقع بها مرض ، فهم يموتون موتا ذريعا. فجلست إلى عمر بن الخطاب ، فمرت به جنازة ، فأثني على صاحبها خير. فقال: وجبت وجبت. ثم مر بأخرى فأثني عليها شر ، فقال عمر: وجبت [ وجبت]. فقال أبو الأسود: ما وجبت يا أمير المؤمنين ؟ قال: قلت: كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة ".

ص171 - كتاب التوضيح لشرح الجامع الصحيح - باب قوله ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة الآية آل عمران - المكتبة الشاملة

فإن شك شاك في فضلها، وطلب مزكيًا لها، فهو أكمل الخلق، نبيهم صلى الله عليه وسلم، فلهذا قال تعالى: { وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}. ومن شهادة هذه الأمة على غيرهم، أنه إذا كان يوم القيامة ، وسأل الله المرسلين عن تبليغهم، والأمم المكذبة عن ذلك، وأنكروا أن الأنبياء بلغتهم، استشهدت الأنبياء بهذه الأمة، وزكاها نبيها. وفي الآية دليل على أن إجماع هذه الأمة، حجة قاطعة، وأنهم معصومون عن الخطأ، لإطلاق قوله: { وَسَطًا} فلو قدر اتفاقهم على الخطأ، لم يكونوا وسطٍا، إلا في بعض الأمور، ولقوله: { لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} يقتضي أنهم إذا شهدوا على حكم أن الله أحله أو حرمه أو أوجبه، فإنها معصومة في ذلك. وفيها اشتراط العدالة في الحكم، والشهادة، والفتيا، ونحو ذلك. يقول تعالى: { وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا} وهي استقبال بيت المقدس أولًا { إِلَّا لِنَعْلَمَ} أي: علمًا يتعلق به الثواب والعقاب، وإلا فهو تعالى عالم بكل الأمور قبل وجودها. ولكن هذا العلم، لا يعلق عليه ثوابًا ولا عقابًا، لتمام عدله، وإقامة الحجة على عباده، بل إذا وجدت أعمالهم، ترتب عليها الثواب والعقاب، أي: شرعنا تلك القبلة لنعلم ونمتحن { مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} ويؤمن به، فيتبعه على كل حال، لأنه عبد مأمور مدبر، ولأنه قد أخبرت الكتب المتقدمة، أنه يستقبل الكعبة، فالمنصف الذي مقصوده الحق، مما يزيده ذلك إيمانًا، وطاعة للرسول.

ودخل في ذلك من مات من المؤمنين قبل تحويل الكعبة، فإن الله لا يضيع إيمانهم، لكونهم امتثلوا أمر الله وطاعة رسوله في وقتها، وطاعة الله، امتثال أمره في كل وقت، بحسب ذلك، وفي هذه الآية، دليل لمذهب أهل السنة والجماعة، أن الإيمان تدخل فيه أعمال الجوارح. وقوله: { إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} أي: شديد الرحمة بهم عظيمها، فمن رأفته ورحمته بهم، أن يتم عليهم نعمته التي ابتدأهم بها، وأن ميَّزَ عنهم من دخل في الإيمان بلسانه دون قلبه، وأن امتحنهم امتحانا، زاد به إيمانهم، وارتفعت به درجتهم، وأن وجههم إلى أشرف البيوت، وأجلها".