فنسأل الله العظيم أن يَجعلنا من ﴿ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 18]، اللهم اغفر لنا ذنوبَنا، وإسرافنا في أمرنا، وثَبِّت أقدامنا، وانصُرنا على القوم الكافرين. اللهم حَرِّر بلادَنا، اللهم انصُر المؤمنين المستضعفين في العراق وفي بُلدان المسلمين، اللهم فَرِّج عن المعتقلين، اللهم أخرجهم سالمين، ﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الصافات: 180 - 182].
فالتكرار واضح، والتأكيد على الأمر صارخ؛ حيث بدأ بالخطاب مع النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ثم ثنى بخطابه مع المؤمنين مباشرة، وكل الخطاب لا يتعدى النهي عن النجوى، لِمَ كل هذا الاعتناء؟ لأنَّ صفة التناجي ليست من صفات المؤمنين إنَّما هي من صفات اليهود. فكان فعل اليهود سببًا لنُزول هذه الآيات الكريمة، فكان اليهود عندما يَمر المسلم من أمامهم كانوا يتناجون فيما بينهم، ويفعلون هذا أمامه؛ لأجل إخافته، ويوهموه أنَّهم يدبرون حوله المكايد، ويدسون حوله الدسائس، فنزل قوله - تعالى - مُعلنا: ﴿ إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ ﴾ [المجادلة: 10] إلى نهاية الآية. القرآن الكريم - تفسير القرطبي - تفسير سورة المجادلة - الآية 10. فجاء تنبيه الله من عليائه أنَّ أصلَها من الشيطان، هو الذي حرَّض عليها، وهو الذي دفع إليها؛ إذ هو يريد دائمًا إحزانَ المسلم، لا يريدك سعيدًا يومًا من الأيام، إنَّما دائمًا يريد أن يَجلب النكد والهمَّ والغمَّ لأهل الإيمان. فماذا على المسلم أن يفعل؟ عند ذاك عليك أن تتوجَّه بقلبك إلى مَن خلقَك وآواك، وحفظك وكفاك، ورزقك وأعطاك، وهو التوكُّل على الله؛ لأنَّ الله يقول: ﴿ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [آل عمران: 122]. يقول الإمام ابن كثير: "عندما يصدر هذا عن المتناجين عن تسويل الشيطان وتزيينه؛ ﴿ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾؛ أي: ليسوءهم، ﴿ وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾مطلقًا، ومن أحسَّ من التناجي ضَررًا فماذا يفعل؟ فليستعذ بالله، وليتوكل على الله، فإنه لا يضره شيء - بإذن الله".
فالجملة استئناف ابتدائي اقتضته مناسبة النهي عن النجوى ، على أنها قد تكون تعليلاً لتأكيد النهي عن النجوى. والتعريف في { النجوى} تعريف العهد لا محالة. أي نجوى المنافقين الذين يتناجون بالإِثم والعدوان ومعصية الرسول صلى الله عليه وسلم. والحصر المستفاد من { إنما} قصر موصوف على صفة و { من} ابتدائية ، أي قصر النجوى على الكون من الشيطان ، أي جائية لأن الأغراض التي يتناجون فيها من أكبر ما يوسوس الشيطان لأهل الضلالة بأن يفعلوه ليحزن الذين آمنوا بما يتطرقهم من خواطر الشر بالنجوى. وهذه العلة ليست قيداً في الحصر فإن للشيطان عللاً أخرى مثل إلقاء المتناجين في الضلالة ، والاستعانة بهم على إلقاء الفتنة ، وغير ذلك من الأغراض الشيطانية. وقد خصت هذه العلة بالذكر لأن المقصود تسلية المؤمنين وتصبرهم على أذى المنافقين ولذلك عقب بقوله: { وليس بضارهم شيئاً} ليطمئن المؤمنون بحفظ الله إياهم من ضر الشيطان. وهذا نحو من قوله تعالى: { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} [ الحجر: 42] وقرأ نافع وحده { ليُحزن} بضم الياء وكسر الزاي فيكون { الذين آمنوا} مفعولاً. وقرأه الباقون بفتح الياء وضم الزاي مضارع حزم فيكون { الذين آمنوا} فاعلاً وهما لغتان.
يقول تعالى: ﴿ وتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * إِنَّمَا النَّجْوَىٰ مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ ﴿ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾: هذا في الحقيقة أمرٌ ذُكر دليله معه، فقد يُسأل لماذا وجب علينا أن نتّقي الله؟ والجواب هو: لأنّ تعاملنا في كلّ شؤوننا هو مع الله، ولو كان مع غير الله فلنجذب انتباهه إلينا! هذا كلام الـمُتاجرة، وهو كلامٌ استدلاليّ، وكلامٌ إذا فكّر الإنسان فيه لأدرك ألّا حيلة له حقيقةً سوى تعامله مع الله. طبعًا مقام عشّاق الله والعارفين به وأولئك الذين لا يعبدونه خوفًا أو طمعًا إنّما حبًّا هو أسمى بمراتب من أن تصل إليه أيادينا. لكن عندما نتحدّث فيما بيننا فإنّ هذه الآية تخاطبنا. نحن من لنا سوى الله تعالى؟ ونحن ليس لنا سوى الله تعالى، وهو ﴿ مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾. فإذا علم الإنسان أنّه سيواجَه يوم القيامة في مستقبله، وإذا أيقن ذلك فيجب عليه أن يتّقي الله ويُراعي أوامره ونواهيه، وهذا معنى التقوى، أيّ المراعاة الشديدة والدقيقة لأوامر الله ونواهيه.