لقد جاءكم رسول

على أن آيات أخرى خوطب بها أهل الكتاب ونحوهم فأكدت بأقل من هذا التأكيد كقوله تعالى: { يأهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفوا عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين} [ المائدة: 15] وكقوله تعالى: { يأيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً} [ النساء: 174] فما زيدت الجملة في هذه السورة مؤكدة إلا لغرض أهم من إزالة الإنكار. والمجيء: مستعمل مجازاً في الخطاب بالدعوة إلى الدين. لقد جاءكم رسول من انفسكم. شبه توجهه إليهم بالخطاب الذي لم يكونوا يترقبونه بمجيء الوافد إلى الناس من مكان آخر. وهو استعمال شائع في القرآن. والأنفس: جمع نفْس ، وهي الذات. ويضاف النفس إلى الضمير فيدل على قبيلة معاد الضمير ، أي هو معدود من ذوي نسبهم وليس عداده فيهم بحلف أو ولاء أو إلصاق. يقال: هو قريشي من أنفسهم ، ويقال: القريشي مولاهم أو حليفهم ، فمعنى { من أنفسكم} من صميم نسبكم ، فتعين أن الخطاب للعرب لأن النازل بينهم القرآن يومئذٍ لا يَعدون العربَ ومن حالفهم وتولاهم مثلَ سلمانَ الفارسي وبلاللٍ الحبشي ، وفيه امتنان على العرب وتنبيه على فضيلتهم ، وفيه أيضاً تعريض بتحريضهم على اتباعه وترك مناواته وأن الأجدر بهم الافتخار به والالتفاف حوله كما قال تعالى في ذكر القرآن { وإنه لذكر لك ولقومك} [ الزخرف: 44] أي يبقى منه لكم ذكر حسن.

  1. لقد جاءكم رسول من انفسكم
  2. لقد جاءكم رسول من أنفسكم تفسير

لقد جاءكم رسول من انفسكم

والآية جامعة، في تبيان ملامح شخصية النبي صلى الله عليه وسلم، ودقيقة في توصيف مقامه صلى الله عليه وسلم، حتى إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيما أورده الطبري لما جاءه خزيمة بن ثابت رضي الله عنه بهذه الآية والتي تليها، ولم يكن يعلمهما إلا منه قال له عمر في واحدة من أعمق العبارات وأكثرها تعبيراً عما يستجيش في قلوب الصحابة حيال النبي صلى الله عليه وسلم، وما تدركهم فطرتهم السليمة عنه: "والله لا أسألك عليهما بينة أبدا فإنه هكذا كان صلى الله عليه وسلم". يشهد الله سبحانه من فوق سماواته العلى والمؤمنون على هذه الأرض، بعظمة النبي صلى الله عليه وسلم، وحبه للمؤمنين، وشفقته بهم، وحرصه على هدايتهم وسلامتهم، وإرشادهم لمجامع الخير لهم في الدنيا والآخرة، وتجنيبهم لما يضرهم. إنها العظمة حين تتجسد في شخص واحد: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ وهي صفات الداعية المربي، والقائد الحكيم، والرائد الأريب الذي يجمع بين الحب والرحمة والرأفة والحرص والعزة وإرادة النصح والخير لأصحابه وتابعيه.

لقد جاءكم رسول من أنفسكم تفسير

إن هذا النبي صلى الله عليه وسلم، وهو المأمور بأن يجاهد الكفار والمنافقين ويغلظ عليهم، ليست الغلظة طابعاً له، بل وصفه الله تعالى بالرأفة والرحمة، وهي للمؤمنين بصيغة المبالغة "رؤوف رحيم" أي كثير الرأفة كثير الرحمة، بخلاف الرحمة العامة المبذولة للعالمين بموجب الرسالة المبعوث بها للناس كافة، مثلما قرر صاحب المنار. حيث لو كان الرسول صلى الله عليه وسلم فظاً غليظ القلب لانفض المؤمنون من حوله، وإنما كانت الغلظة لأئمة الكفر والنفاق، وكانت الرحمة هي عنوان الرسالة وعمومها، وكانت الرأفة والرحمة العميمة هما الصفتان اللازمتان للنبوة مع ضعفاء المؤمنين وسائر أطيافهم. في نور آية كريمة.. {رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم} | موقع المسلم. وفي تلك الآية العظيمة، شهادة من رب العالمين بأن النبي صلى الله عليه وسلم، يعز على قلبه حقيقة ما يجده المؤمنون في طريق دعوتهم، والعنت (المشقة) التي تعرضوا لها في حياتهم، والتي سيتعرضون لها، قال قتادة: المعنى: "عنت مؤمنيكم". وقال ابن عطية في تفسيره: "أي: ما شق عليكم من كفر وضلال بحسب الحق، ومن قتل أو إسار وامتحان بسبب الحق واعتقادكم أيضا معه". فالرسول صلى الله عليه وسلم يعز عليه ما لقيه المؤمنون من عنت في الطريق، وهو يدرك تلك المشاق التي واجهتهم، ويشفق عليهم، ويحرص على ألا يصيبهم مكروه، وهو حريص على هداية الناس كل الناس، ورغم ما قد يبدو للبعض من تكليف النبي صلى الله عليه وسلم لهم في رسالة الله سبحانه من مكاره كالجهاد وتحمل الأعباء وألوان الابتلاءات ما يُظن للذاهلين عن جوهر الأمور أنه مناقض للرحمة والرأفة، إلا أن الحقيقة خلاف هذا؛ فهذه المتاعب والتكاليف إنما هي في مضمونها الرحمة والرأفة والشفقة والراحة، ولهذا فهو صلى الله عليه وسلم يمضي بهم في كل ذلك، وهو بهم رؤوف رحيم، مشفق عليهم حريص على حصول الخير لهم في الدنيا والآخرة.

فلو أتي بالمصدر لم يكن مشيراً إلى عنتتٍ معيَّن ولا إلى عنت وقع لأن المصدر لا زمَان له بل كان محتملاً أن يعز عليه بأن يجنبهم إياه ، ولكن مجيء المصدر منسبكاً من الفعل الماضي يجعله مصدراً مقيداً بالحصول في الماضي ، ألا ترى أنك تقدره هكذا: عزيز عليه عنتكم الحاصل في ما مضى لتكون هذه الآية تنبيهاً على أن ما لقوه من الشدة إنما هو لاستصلاح حالهم لعلهم يخفضون بعدها من غلوائهم ويرعوون عن غيهم ويشعرون بصلاح أمرهم. والحرص: شدة الرغبة في الشيء والجشعُ إليه. ولما تعدى إلى ضمير المخاطبين الدال على الذوات وليست الذوات هي متعلق الحرص هنا تعين تقدير مضاف فُهم من مقام التشريع ، فيقدر: على إيمانكم أو هَدْيكم. قال تعالى لقد جاءكم رسول من أنفسكم. والرؤوف: الشديد الرأفة. والرحيم: الشديد الرحمة ، لأنهما صيغتا مبالغة ، وهما يتنازعان المجرور المتعلق بهما وهو { بالمؤمنين}. والرأفة: رقة تنشأ عند حدوث ضر بالمرءُوف به. يقال: رؤوف رحيم. والرحمة: رقة تقتضي الإحسان للمرحوم ، بينهما عموم وخصوص مطلق ، ولذلك جمع بينهما هنا ولوازمُهما مختلفة. وتقدمت الرأفة عند قوله تعالى: { وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرءوف رحيم} في سورة البقرة ( 143) والرحمة في سورة الفاتحة ( 3).