قال ربي اجعل لي آية

وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا; أي أوجدتك بقدرتي فكذلك [ ص: 76] أوجد لك الولد. واختار هذا القول النحاس وقال: قول قتادة إن زكريا عوقب بترك الكلام قول مرغوب عنه; لأن الله عز وجل لم يخبرنا أنه أذنب ولا أنه نهاه عن هذا; والقول فيه أن المعنى اجعل لي علامة تدل على كون الولد ، إذ كان ذلك مغيبا عني. و رمزا نصب على الاستثناء المنقطع; قاله الأخفش. وقال الكسائي: رمز يرمز ويرمز. وقرئ " إلا رمزا " بفتح الميم و ( رمزا) بضمها وضم الراء ، الواحدة رمزة. الثالثة: في هذه الآية دليل على أن الإشارة تنزل منزلة الكلام وذلك موجود في كثير من السنة ، وآكد الإشارات ما حكم به النبي - صلى الله عليه وسلم - من أمر السوداء حين قال لها: ( أين الله ؟) فأشارت برأسها إلى السماء فقال: ( أعتقها فإنها مؤمنة). القرآن الكريم - تفسير القرطبي - تفسير سورة آل عمران - الآية 41. فأجاز الإسلام بالإشارة الذي هو أصل الديانة الذي يحرز الدم والمال وتستحق به الجنة وينجى به من النار ، وحكم بإيمانها كما يحكم بنطق من يقول ذلك; فيجب أن تكون الإشارة عاملة في سائر الديانة ، وهو قول عامة الفقهاء. وروى ابن القاسم عن مالك أن الأخرس إذا أشار بالطلاق أنه يلزمه. وقال الشافعي في الرجل يمرض فيختل لسانه فهو كالأخرس في الرجعة والطلاق.

إعراب قوله تعالى: قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال الآية 10 سورة مريم

[ ص: 214] قوله عز وجل: قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار الآية: العلامة. وقال الربيع والسدي وغيرهما: إن زكرياء قال: يا رب إن كان ذلك الكلام من قبلك والبشارة حق، فاجعل لي علامة أعرف صحة ذلك بها، فعوقب على هذا الشك في أمر الله بأن منع الكلام ثلاثة أيام مع الناس. وقالت فرقة من المفسرين: لم يشك قط زكرياء، وإنما سأل عن الجهة التي بها يكون الولد وتتم البشارة، فلما قيل له: كذلك الله يفعل ما يشاء سأل علامة على وقت الحمل ليعرف متى يحمل بيحيى. واختلف المفسرون، هل كان منعه الكلام لآفة نزلت به أم كان ذلك لغير آفة؟ فقال جبير بن نفير: ربا لسانه في فيه حتى ملأه ثم أطلقه الله بعد ثلاث. وقال الربيع وغيره: عوقب لأن الملائكة شافهته بالبشارة فسأل بعد ذلك علامة فأخذ الله عليه لسانه، فجعل لا يقدر على الكلام. إعراب قوله تعالى: قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال الآية 10 سورة مريم. وقال قوم من المفسرين: لم تكن آفة، ولكنه منع محاورة الناس فلم يقدر عليها، وكان يقدر على ذكر الله، قاله الطبري، وذكر نحوه عن محمد بن كعب. ثم استثنى الرمز، وهو استثناء منقطع. وذهب الفقهاء في الإشارة ونحوها إلى أنها في حكم الكلام في الأيمان ونحوها، فعلى هذا يجيء الاستثناء متصلا، والكلام [ ص: 215] المراد بالآية إنما هو النطق باللسان لا الإعلام بما في النفس، فحقيقة هذا الاستثناء أنه منقطع.

فصل: إعراب الآيات (10- 11):|نداء الإيمان

لا غنى لنا بحال من الأحوال عن ذكر الله  ، فإذا جف اللسان جف القلب، وإذا جف القلب تسحرت النفس، وكثُرت الواردات عليها من الهموم والوساوس والخواطر السيئة، وتسلط الشيطان، والإغواء، وما إلى ذلك، الذكر هو الحِصن. ويؤخذ من هذه الآية الكريمة بقوله: وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا لم يرد الأمر بالإكثار من شيء من العبادات، يعني: يرد مقيدًا بالإكثار إلا الذكر، وهذا كثير: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ [الأحزاب:35]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا [الأحزاب:41]، وذلك أنها عبادة خفيفة على اللسان لا تحتاج إلى هيئة مُعينة، يذكر قائمًا وقاعدًا وعلى جنب بكل حالاته، وثوابها وأثرها عظيم. فأسأل الله  أن يجعلنا وإياكم من الذاكرين كثيرًا والذاكرات، -والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد، وآله، وصحبه. الموافقات (5/ 312). إسلام ويب - تفسير القرطبي - سورة آل عمران - قوله تعالى قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا - الجزء رقم1. نشر البنود على مراقي السعود (1/ 110).

القرآن الكريم - تفسير القرطبي - تفسير سورة آل عمران - الآية 41

ويحتمل أن يكون المراد بالتسبيح التسبيح بالمعنى المُتبادر الذي هو تنزيه الله -تبارك وتعالى- عن النقائص، كقول: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم، ونحو ذلك، وهذا هو المُتبادر، وبين القولين مُلازمة؛ فإن الصلاة مشتملة على التسبيح في ركوعها وسجودها كما هو معلوم، وكذلك أيضًا في القيام في بعض ما جاء في أدعية الاستفتاح "سبحانك اللهم وبحمدك" في أولها، والصلاة يُقال لها تسبيح، فرض الصلاة ونفلها يُقال له ذلك. فيؤخذ من هذه الآية الكريمة من الفوائد: قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً هذا يدل على أنه لا بأس أن يطلب الإنسان آية يتعرف بها على أمر تطمئن نفسه بهذه الآية، ويحصل له كمال اليقين، لم يكن شاكًا قط، ولكن وجود الآية هو زيادة في باب اليقين، واليقين يتفاوت فهو على ثلاث درجات: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين، فهذه ثلاث مراتب كبار، وفي كل مرتبة يحصل أيضًا من التفاوت ما لا يخفى، فقد يتيقن الإنسان بخبر من يثق به مضمون هذا الخبر فإذا جاءه آخر يثق به ازداد اليقين، فإذا جاء ثالث ورابع وعاشر ازداد اليقين. وهذا أمر معلوم يجده الإنسان من نفسه كالشِبع والري ولا يُحد بحد معلوم، هنا يدل ذلك: قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً أنه كلما زادت الدلائل والبراهين ازداد اليقين، ومن هنا كان أهل العلم أكثر الناس يقينًا، العلم الصحيح الذي يدل على الله -تبارك وتعالى، فهم أعظم الناس يقينًا وأثبت الناس اعتقادًا، وأما من قل بصره وعلمه فإنه يتشكك، ولهذا فإن عامة المسلمين يعني العوام الذين ورثوا الدين من آبائهم أنهم يحصل لهم التشكيك إذا وجد المُشكك والمُلبس، والذي يُثير الشبهات، بينما العالم الراسخ على اسمه راسخ فإنه لا يتحرك ولا يتزعز كالجبل الثابت.

إسلام ويب - تفسير القرطبي - سورة آل عمران - قوله تعالى قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا - الجزء رقم1

قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً ۖ قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا ۗ وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41) قوله تعالى: قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار فيه ثلاث مسائل: الأولى: قوله تعالى: قال رب اجعل لي آية " جعل " هنا بمعنى صير لتعديه إلى مفعولين. و " لي " في موضع المفعول الثاني. ولما بشر بالولد ولم يبعد عنده هذا في قدرة الله تعالى طلب آية - أي علامة - يعرف بها صحة هذا الأمر وكونه من عند الله تعالى; فعاقبه الله تعالى بأن أصابه السكوت عن كلام الناس لسؤال الآية بعد مشافهة الملائكة إياه; قال أكثر المفسرين. قالوا: وكذلك إن لم يكن من مرض خرس أو نحوه ففيه على كل حال عقاب ما. قال ابن زيد: إن زكريا عليه السلام لما حملت زوجه منه بيحيى أصبح لا يستطيع أن يكلم أحدا ، وهو مع ذلك يقرأ التوراة ويذكر الله تعالى; فإذا أراد مقاولة أحد لم يطقه. الثانية: قوله تعالى: إلا رمزا الرمز في اللغة الإيماء بالشفتين ، وقد يستعمل في الإيماء بالحاجبين والعينين واليدين; وأصله الحركة.

وجملة: (اتّخذت... ) في محلّ جرّ معطوفة على جملة انتبذت.. وجملة: (أرسلنا... ) في محلّ جرّ معطوفة على جملة اتّخذت. وجملة: (تمثّل... ) في محلّ جرّ معطوفة على جملة أرسلنا. الصرف: (شرقيّا)، اسم منسوب إلى الشرق للجهة المعروفة، وزنه فعليّ بفتح الفاء.

وروى ابن القاسم عن مالك أن الأخرس إذا أشار بالطلاق أنه يلزمه. وقال الشافعي في الرجل يمرض فيختل لسانه فهو كالأخرس في الرجعة والطلاق. وقال أبو حنيفة: ذلك جائز إذا كانت إشارته تعرف ، وإن شك فيها فهي باطل ، وليس ذلك بقياس وإنما هو استحسان. والقياس في هذا كله أنه باطل; لأنه لا يتكلم ولا تعقل إشارته. قال أبو الحسن بن بطال: وإنما حمل أبا حنيفة. على قوله هذا أنه لم يعلم السنن التي جاءت بجواز الإشارات في أحكام مختلفة في الديانة. ولعل البخاري حاول بترجمته " باب الإشارة في الطلاق والأمور " الرد عليه. وقال عطاء: أراد بقوله ألا تكلم الناس صوم ثلاثة أيام. وكانوا إذا صاموا لا يتكلمون إلا رمزا. وهذا فيه بعد ، والله أعلم. الرابعة: قال بعض من يجيز نسخ القرآن بالسنة: إن زكريا عليه السلام منع الكلام وهو قادر عليه ، وإنه منسوخ بقوله عليه السلام: لا صمت يوما إلى الليل. وأكثر العلماء على أنه ليس بمنسوخ ، وأن زكريا إنما منع الكلام بآفة دخلت عليه منعته إياه ، وتلك الآفة عدم القدرة على الكلام مع الصحة; كذلك قال المفسرون. وذهب كثير من العلماء إلى أنه ( لا صمت يوما إلى الليل) إنما معناه عن ذكر الله ، وأما عن الهذر وما لا فائدة فيه ، فالصمت عن ذلك حسن.