عن عمره فيما أفناه

ولا يرى مَن هو أقلُّ من الستين في هذا الحديث فُسحةً من الوقت، بل إنَّ الذي دون الستين هو مقصود ثانٍ للحديث -حيث المقصود الأوَّل تابع للنصّ على الستين- فالحديث يُبلغك أنَّك تنفق من رصيد أعذارك يا عبد الله عامًا بعد عام. ملتقى الشفاء الإسلامي - وعمره فيما أفناه. فبادِر ولا تنتظر إلى أنْ تردَّ إلى آخر العمر كما في الآية (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) -النحل 70-. العمر بوصفه سِجلًّا وتخبرنا الآيات أنَّ أعمارنا مُقدَّرة عند الله مكتوبة في قوله -تعالى- (وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ) -فاطر 11-. وتخبرنا آيات أخرى عن هذا الكتاب الذي يُسجَّل فيه كلُّ صغيرة وكبيرة تفعلها، تقول الآيتان (وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) -الإسراء 14،13-. ومن هُنا نرى أنَّ مجموع النصوص تنظر إلى العمر لا بوصفه فرصةً وحسب، بل بوصفه سِجلًّا يُكتب.

  1. ملتقى الشفاء الإسلامي - وعمره فيما أفناه

ملتقى الشفاء الإسلامي - وعمره فيما أفناه

فيصفعُهُم السؤال "أولمْ نعمِّركم"؟! وعندها يتوقَّف كلُّ شيء! ويا لها من قوَّة تسلبك حُججنا الباطلة التي قد نحتجّ بها؛ أولمْ نمدَّ في أعماركم فلماذا لمْ تتنبَّهوا؟! أولمْ تمرَّ عليك السنة تلو السنة وأنت لاهٍ عن حقيقة وجودك؟! أولمْ تحسب عُمرك كلَّ عام فتجده ازداد رقمًا فلِمَ لمْ يزِدْك هذا الرقم رَشَدًا؟.. هذا الاحتجاج الذي تقدِّمه الآية هو "احتجاج بالعمر" قرينةً ضدَّ الإنسان. وعندها تكتشف أنَّ العمر الذي قضيت وقتك في تعداد كَمِّه كان الأحرى أنْ تفعل فيه شيئًا آخر. ثمَّ يزيد من حَرَجك إكمال الاستفهام في قوله "وجاءكم النذير"؛ ألمْ يأتِك هذا الشيب؟ ألمْ تُبلِغك هذه الشعرات التي تمرَّدتْ على السَّواد فوق رأسك أنْ قد حان وقتٌ؟ ألمْ يُشعرك انتصاف العمر بعد ثلاثين وأربعين أنْ عليك أنْ تُجهد نفسك في التحرُّك؟ وأنَّك كبرت على التلهِّي وتمضية الوقت كما يفعل أبناء السادسة؟ وأنَّك في نصف المُضيّ لا في نصف الترحاب بالدنيا؟ يقول الإمام النووي عن تفسير "النذير": "قال ابن عباس: هو النبيّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-. عن عمره فيما أفناه. وقِيل: الشَّيْب، قاله عكرمة وابن عُيَيْنة وغيرهما". وعلى أيٍّ من التفسيرَيْن تدبَّرْ وستجد هذا دافعًا صادقًا حارًّا على أن تتحرَّك بجدٍّ نحو الحقّ -تبارك وتعالى-.. ولعلَّك الآن تدرك قيمة هذا القرآن الذي بين يدَيْك الذي يُبلغك وأنتَ على الأرض ماذا سيحدث عندما تصير تحتها.

فنظر السلطان إلى هذا الملك العظيم، وبكى وقال: والله والله لو قبل مني ملك الموت كل هذا لافتديت به، ثم نظر إلى جنوده وقال: أما هؤلاء والله لا يستطيعون أن يزيدوا في عمري ساعة. فأجهش بالبكاء وقال: مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ [الحاقة:28-29]. وهذا هارون الذي كان يخاطب السحابة في كبد السماء، ويقول لها هارون: أيتها السحابة! في أي مكان شئت فأمطري، فسوف يحمل إليّ خراجك إن شاء الله تعالى. لما نام على فراش الموت بكى هارون، وقال لإخوانه: أريد أن أرى قبري الذي سأدفن فيه، فحملوا هارون إلى قبره، فنظر هارون إلى القبر وبكى. ورفع رأسه إلى السماء وقال: يا من لا يزول ملكه! ارحم من قد زال ملكه.. دع عنك ما قد كان في زمن الصبا واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب لم ينسه الملكان حين نسيته بل أثبتاه وأنت لاه تلعب والروح منك وديعة أودعتها ستردها بالرغم منك وتسلب وغرور دنياك التي تسعى لها دار حقيقتها متاع يذهب الليل فاعلم والنهار كلاهما أنفاسنا فيهما تعد وتحسب أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [المؤمنون:115-116].