عتبة بن غزوان

بسم الله الرحمن الرحيم عتبة بن غزوان أوَى أميرُ المؤمنين عُمرُ بنُ الخطاب بعدَ صلاةِ العشاء إلى مضجعِهِ فقد كان يريدُ أن يصيبَ حظاً من الراحَة ليستعين به على العسِّ ( العس أي الطواف بالليل للحراسة) في الليل. لكنَّ النومَ نفرَ عن عيني الخليفةِ، لأنّ البريد حمَلَ إليه أنَّ جُيوش الفرسِ المنهزمة أمام المسلمين كانت كلما أوشك جُندُه على أن يُجهزوا عليها ( يقضوا عليها) يأتيها المددُ من هنا وهناك، فلا تلبث أن تستعيدَ قوَّتها وتستأنفَ القتال. وقيل له: إنَّ مدينة الأبلةِ (مدينة في جوار البصرة ألحقت بها وغدت جزءاً منها) تعدّ من أهم المصادرِ التي تمدُ جيوشَ الفرسِ المنهزمة بالمالِ والرجال. فعزمَ على أن يُرسل جيشاً لفتحِ الأبلة، وقطعِ إمداداتها عن الفرس، لكنهُ اصطدمَ بقلة الرجالِ عنده؛ ذلك لأنَّ شبانَ المسلمين وكهولهم وشيوخهم قد خرجوا يَضربون في فجاجِ الأرض غزاة في سبيلِ الله، حتى لم يبقَ لديهِ في المدينةِ إلا النزرُ القليلُ الضئيل. إلا أنه رضي الله عنه عمد إلى طريقتهِ التي عُرفَ بها، وهي التعويضُ عن قِلة الجُند بقوة القائد، فنثرَ كنانة (جعبة السهام) رجاله بين يَديه وأخذ يعجمُ (يختبر) «شبههم بالسهام» عيدَانهم واحداً بعد آخرَ ثم ما لبثَ أن هتف: وَجدتهُ، نعم وجدته، ثم مَضى إلى فراشهِ وهو يقول: إنه مجاهدٌ عرفتهُ بدرٌ وأحدُ والخندقُ وأخواتها، وشهدَت لها اليمامة ومواقِفها، فما نبا له سيفٌ، ولا أخطأت له رَمية… ثم إنه هاجرَ الهجرتين ( الهجرة إلى بلاد الحبشة والهجرة إلى المدينة) ، وكان سابعَ سبعةٍ أسلمُوا على ظهرِ الأرض.

رجال حول الرسول ( صلى الله عليه وسلم )

فعمد عمر علي خبرة وقوة القائد عوضا عن كثرة الرجال فأخذ يفكر فمن يعول عليه قيادة الجيش وله من القوة والخبرة والكفائة لتعوض نقص العدد حتي صاح قائلا: وجدته نعم وجدته وأمر أن يحضروا له في الصباح عتبة بن غزوان ، فعقد له الراية علي جيش مكون من ثلاثمائة وبضع عشر رجلا مع الوعد بمدده فيما بعد لما يتوفر لديه من الرجال.

عتبة بن غزوان المازني | موقع نصرة محمد رسول الله

وادع الى الله من أجابك. ومن أبى٬ فالجزية.. والا فالسيف في غير هوادة.. كابد العدو٬ واتق الله ربك".. ** ومضى عتبة على رأس جيشه الذي لم يكن كبيرا٬ حتى قدم الأبلة.. وكان الفرس يحشدون بها جيشا من أقوى جيوشهم.. ونظم عتبة قواته٬ ووقف في مقدمتها٬ حاملا رمحه بيده التي لم يعرف الناس لها زلة منذ عرفت الرمي. وصاح في جنده:" الله أكبر٬ صدق وعده".. وكأنه كان يقرأ غيبا قريبا٬ فما هي الا جولات ميمونة استسلمت بعدها الأبلة وطهرت أرضها من جنود الفرس٬ وتحرر أهلها من طغيان طالما أصلاهم سعيرا.. وصدق الله العظيم وعده. ** عتبة بن غزوان ينشئ مدينة البصرة احتط عتبة مكان الأبلة مدينة البصرة٬ وعمرها وبنى مسجدها العظيم.. وأراد أن يغادر البلاد عائدا الى المدينة٬ هاربا من الامارة٬ لكن أمير المؤمنين أمره بالبقاء.. ولبث عتبة مكانه يصلي بالناس٬ ويفقههم في دينهم٬ ويحكم بينهم بالعدل٬ ويضرب لهم أروع المثل في الزهد والورع والبساطة. ووقف يحارب الترف والسرف بكل قواه حتى ضجره الذين كانوا تستهويهم المناعم والشهوات.. هنالك وقف عتبة فيهم خطيبا فقال:" والله٬ لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سابع سبعة ومالنا طعام الا ورق الشجر حتى قرحت أشداقنا.. ولقد رزقت يوما بردة٬ فشققتها نصفين٬ أعطيت نصفها سعد بن مالك٬ ولبست نصفها الآخر".. ** كان عتبة يخاف الدنيا على دينه أشد الخوف٬ وكان يخافها على المسلمين٬ فراح يحملهم على القناعة والشظف.

الوفاة: لما جاء موسم الحج، استخلف على البصرة أحد إخوانه وخرج حاجا. ولما قضى حجه، سافر إلى المدينة، وهناك سأل أمير المؤمنين أن يعفيه من الإمارة.. لكن عمر لم يكن يفرّط في هذا الطراز الجليل من الزاهدين الهاربين مما يسيل له لعاب البشر جميعا. وكان يقول لهم:" تضعون أماناتكم فوق عنقي.. ثم تتركوني وحدي.. ؟ لا والله لا أعفيكم أبدا"..!! وهكذا قال لـ عتبة لغزوان.. ولما لم يكن في وسع عتبة إلا الطاعة، فقد استقبل راحلته ليركبها راجعا إلى البصرة. لكنه قبل أن يعلو ظهرها، استقبل القبلة، ورفع كفّيه الضارعتين إلى السماء ودعا ربه عز وجل ألا يردّه إلى البصرة، ولا إلى الإمارة أبدا.. واستجيب دعاؤه.. فبينما هو في طريقه إلى ولايته أدركه الموت.. وفاضت روحه إلى بارئها، مغتبطة بما بذلت وأعطت.. وبما زهدت وعفت.. وبما أتم الله عليها من نعمة.. وبما هيأ لها من ثواب... وتوفي بطريق البصرة وافدا إلى المدينة سنة سبع عشرة. وقيل: مات سنة خمس عشرة، وعاش سبعا وخمسين سنة، رضي الله عنه.