كل شيء هالك إلا وجهه

يقول تعالى: ﴿ولا تدع مع الله الهاً آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون﴾ ([1]). قال الطبرسي: رحمه الله: المعنى كل شيء فان بائد إلا ذاته، وهذا كما يقال: هذا وجه الرأي ووجه الطريق. ثم قال: وفي هذا دلالة على أن الأجسام تفنى ثم تعاد، على ما قاله الشيوخ في الفناء والإعادة. كل شيء هالك إلا وجهه. وعن ابن عباس: أي كل شيء هالك إلا ما أريد به وجهه، فإنه يبقى ثوابه([2]). وقيل: إن المعنى كل شيء هالك، وانما وجوده وبقاؤه وكماله بالجهة المنسوبة إليه سبحانه، فإنه علة لوجود كل شيء وبقائه وكماله، ومع قطع النظر عن هذه الجهة، فهي فانية باطلة هالكة. وقيل: إن المعنى كل شيء هالك، أي: باطل، إلا دينه الذي يتوجه به إليه سبحانه، وكل ما أمر به من طاعته، وقد وردت أخبار كثيرة على هذا الوجه. وقيل: إن المراد بالوجه الأنبياء والأوصياء ـ عليهم السلام ـ لأن الوجه ما يواجه به عباده ويخاطبهم بهم ـ عليهم السلام ـ واذا أراد العباد التوجه إليه تعالى يتوجهون إليهم، وبه أيضا وردت أخبار كثيرة. وقيل: إن الضمير راجع إلى الشيء، أي: كل شيء بجميع جهاته باطل وفان، إلا وجهه الذي به يتوجه إلى ربه، وهو روحه وعقله ومحل معرفة الله منه التي تبقى بعد فناء جسمه وشخصه، وهو أيضا مروي عنهم ـ عليهم السلام([3]).

قال تعالى (كل شئ هالك إلا وجهه )  المستثنى في الجملة - موقع المقصود

القول الثاني: أن المراد بهذه الآية: كل شيء باطل إلا ما أُريد به وجه الله. القرآن الكريم - تفسير ابن كثير - تفسير سورة القصص - الآية 88. وممن قال بهذا القول مجاهد [17] ، وأبو العالية [18] ، والثوري [19] ، وقول لابن تيمية [20] ، وابن القيم [21] ، وينسب إلى ابن عباس [22] ، وللبخاري [23]. قال ابن تيمية: "قوله: ﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ﴾ [القصص: 88]؛ أي: دينه وإرادته وعبادته، والمصدر يُضاف إلى الفاعل تارة، وإلى المفعول أخرى، وهو قولهم: ما أريد به وجهه، فكل معبود دون الله باطل، وكل ما لا يكون لوجهه فهو هالك فاسدٌ باطل. وسياق الآية يدل عليه [24]. وقد جاء الوجه في صفات الله في مواضع من الكتاب والسنة ليس هذا موضعها؛ قالوا: لكن الوجه إذًا وجه: تبعه سائر الإنسان، وإذا أسلم: فقد أسلم سائر الإنسان، وإذا أُقيم فقد أُقيم سائره؛ لأنه هو المتوجه أولًا من الأعضاء الظاهرة للقاصد الطالب؛ ولهذا يُذكر كثيرًا على وجه الاستلزام لسائر صاحبه" [25] ، "وذلك أن لفظ "الوجه" يُشبه أن يكون في الأصل مثل الجهة، كالوعد والعدة، والوزن والزنة، والوصل والصلة، والوسم والسمة، لكن فِعْلُه حذفت فاؤها، فيكون مصدرًا بمعنى التوجُّه والقصد؛ كما قال الشاعر: أستغفر الله ذنبًا لستُ محصيه ♦♦♦ رب العباد إليه الوجه والعمل" [26].

ولكن المعنى الأول أسد وأقوى. وعلى طريقة من يقول بجواز استعمال المشترك في معنييه ، نقول: يمكن أن نحمل الآية على المعنيين ، إذ لا منافاة بينهما ، فتحمل على هذا وهذا ، فيقال: كل شيء يفنى إلا وجه الله عز وجل، وكل شيء من الأعمال يذهب هباء ، إلا ما أريد به وجه الله. وعلى أي التقديرين ، ففي الآية دليل على ثبوت الوجه لله عز وجل " ، انتهى. القرآن الكريم - تفسير الطبري - تفسير سورة القصص - الآية 88. ثانيًا: ما ذكره الإمام "ابن كثير" يلتئم مع ما ذكرناه ، وليس فيه نفي الصفة ، فإن الصفة أطلقت وأريد بها الذات ، فقد قال في "تفسيره" (2/ 261): " وَقَوْلُهُ: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ: إِخْبَارٌ بِأَنَّهُ الدَّائِمُ الْبَاقِي الْحَيُّ الْقَيُّومُ ، الَّذِي تَمُوتُ الْخَلَائِقُ وَلَا يَمُوتُ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ [الرَّحْمَنِ: 26 ، 27] ، فعبر بالوجه عن الذات ، وهكذا قوله ها هنا: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ أَيْ: إِلَّا إِيَّاهُ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ ، مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا شَاعِرٌ [كَلِمَةُ] لَبِيَدٍ: أَلَا كلُّ شَيْء مَا خَلا اللهَ بَاطِلُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالثَّوْرِيُّ فِي قَوْلِهِ: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ أَيْ: إِلَّا مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُهُ ، وَحَكَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ كَالْمُقَرِّرِ لَهُ.

القرآن الكريم - تفسير الطبري - تفسير سورة القصص - الآية 88

تفسير سورة العنكبوت

سلسلة آيات العقيدة المتوهم إشكالها (14) ﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ﴾ [القصص: 88] وفيه ثلاثة مطالب: المطلب الأول: بيان وجه الإشكال في الآية. المطلب الثاني: أقوال أهل العلم في هذا الإشكال. قال تعالى (كل شئ هالك إلا وجهه )  المستثنى في الجملة - موقع المقصود. المطلب الثالث: الترجيح. ♦ ♦ ♦ المطلب الأول: بيان وجه الإشكال في الآية: ﴿ وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [القصص: 88]. يتمثل وجه توهم الإشكال في قوله تعالى: ﴿ إِلَّا وَجْهَهُ ﴾؛ حيث ورد عن بعض السلف تفسير الآية بغير صفة الوجه، فهل يصحُّ تفسيرها بذلك؟ [1]. هذا ما أحاول الجواب عنه في المطالب التالية: المطلب الثاني: أقوال أهل العلم في هذا الإشكال: اختلف أهل العلم في هذه المسألة على أقوال أهمها: القول الأول: أن المراد بهذه الآية صفة الوجه لله عز وجل، وممن قال بذلك الشافعي [2] ، والدارمي [3] ، والطبري [4] ، وابن خزيمة [5] ، وقول للبخاري [6] ، واللالكائي [7] ، والملطي [8] ، والسمعاني [9] ، وابن أبي يعلى [10] ، والأصبهاني [11] ، وقول لابن تيمية [12] ، وقول لابن كثير [13] ، وابن أبي العز [14] ، والشنقيطي [15] ، وابن عثيمين [16].

القرآن الكريم - تفسير ابن كثير - تفسير سورة القصص - الآية 88

(٢) النساء: ٧٩. (٣) إشارة إلى قوله تعالى: (ولقد آتيناك سبعا من المثاني و القرآن العظيم) والمثاني جمع مثناة من التثنية أو جمع من الثناء قال الصدوق رحمه الله معنى قوله: نحن المثاني أي نحن الذين قرننا النبي صلى الله عليه وآله إلى القرآن وأوصى بالتمسك ب القرآن وبنا، وأخبر أمته انا لا نفرق حتى نرد عليه حوضه إنتهى. وإنما كانوا عليه السلام عين الله لان الله سبحانه بهم ينظر إلى عباده نظر الرحمة ويده لأنه بهم يربيهم. (في) (٤) وامامة بالنصب عطفا على ضمير المتكلم في جهلنا ثانيا أي جهلنا وجهل امامة المتقين وفى التوحيد (أمامه اليقين) أي الموت على التهديد أو المراد انه يتيقن بعد الموت ورفع الشبهات. (آت) (١٤٣) الذهاب إلى صفحة: «« «... 138 139 140 141 142 143 144 145 146 147 148... » »»

وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ ۘ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ۚ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88) القول في تأويل قوله تعالى: وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88) يقول تعالى ذكره: ولا تعبد يا محمد مع معبودك الذي له عبادة كلّ شيء معبودا آخر سواه. وقوله: ( لا إِلَهَ إِلا هُوَ) يقول: لا معبود تصلح له العبادة إلا الله الذي كلّ شيء هالك إلا وجهه. واختلف في معنى قوله: ( إِلا وَجْهَهُ) فقال بعضهم: معناه: كلّ شيء هالك إلا هو. وقال آخرون: معنى ذلك: إلا ما أريد به وجهه, واستشهدوا لتأويلهم ذلك كذلك بقول الشاعر: أَسْـتَغْفِرُ اللـهَ ذَنْبًـا لَسْـتُ مُحْصِيـهُ رَبُّ العِبــادِ إلَيْـهِ الوَجْـهُ والعَمَـلُ وقوله: ( لَهُ الْحُكْمُ) يقول: له الحكم بين خلقه دون غيره, ليس لأحد غيره معه فيهم حكم ( وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) يقول: وإليه تردون من بعد مماتكم, فيقضي بينكم بالعدل, فيجازي مؤمنيكم جزاءهم, وكفاركم ما وعدهم.