وهذا تطهيرٌ لازم للحق عبر حركة دائمة دائبة، ولذا قال الله: { فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا}، أي أن الحق يبقى صافيا ثابتا، أما الباطل فيعلو ليتجمع على الجوانب ليذهب بغير فائدة، وهو مثلٌ واقعي نراه في حياتنا، فالأرض والناس وكل المخلوقات تنتفع بالمياه كل يوم، لكنها لا تنتفع أبدا بالزبد! وزبد المياه في هذا المثل يقابله على أرض الواقع: الزَّبد في القلب والزَّبد في الأرض.. فأما الزبد الذي في القلب فهو الشبهات والشهوات فيه، وهما مضمحلان تحت تأثير الوحي في القلب إذا استدعاه العبد والتجأ إليه، فالوحي باقٍ يمكث في أرض القلب لينتفع به المؤمن، ويثمر عملا صالحا كما ينبت الماء في الأرض عشبا وزرعا ونخلا وعنبا. فأما الزبد فيذهب جفاء اسلام ويب. وأما الزبد الذي في الأرض فهو الباطل الذي يحارب الحق ويتصارع معه، وللباطل جولة، وإن علا على الحق يوما، لكن الحق له العاقبة، ولأهلة السيادة والظفر.
وقال العوفي ، عن ابن عباس: قوله: ( أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا) يقول: احتمل السيل ما في الوادي من عود ودمنة ( ومما يوقدون عليه في النار) فهو الذهب والفضة والحلية والمتاع والنحاس والحديد ، فللنحاس والحديد خبث ، فجعل الله مثل خبثه كزبد الماء ، فأما ما ينفع الناس فالذهب والفضة ، وأما ما ينفع الأرض فما شربت من الماء فأنبتت. فجعل ذاك مثل العمل الصالح يبقى لأهله ، والعمل السيئ يضمحل عن أهله ، كما يذهب هذا الزبد ، فكذلك الهدى والحق جاءا من عند الله ، فمن عمل بالحق كان له ، ويبقى كما يبقى ما ينفع الناس في الأرض. وكذلك الحديد لا يستطاع أن يعمل منه سكين ولا سيف حتى يدخل في النار فتأكل خبثه ، ويخرج جيده فينتفع به. كذلك يضمحل الباطل إذا كان يوم القيامة ، وأقيم الناس ، وعرضت الأعمال ، فيزيغ الباطل ويهلك ، وينتفع أهل الحق بالحق. وكذلك روي في تفسيرها عن مجاهد ، والحسن البصري ، وعطاء ، وقتادة ، وغير واحد من السلف والخلف. وكما قال تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء}. وقد ضرب الله ، سبحانه وتعالى ، في أول سورة البقرة للمنافقين مثلين ناريا ومائيا ، وهما قوله: ( مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله) الآية [ البقرة: 17] ، ثم قال: ( أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق) الآية [ البقرة: 19].
فتاوى الشيخ ابن باز عدد الزيارات: 9821 طباعة المقال أرسل لصديق يسأل عن تفسير جمع من الآيات القرآنية: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تعالى: ((أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى))[القيامة:34]، ما معنى هذه الآية الكريمة؟ معناه التحذير والترهيب والحث على التوبة والرجوع إلى الله، وأن الواجب على المؤمن أن يبادر بالتوبة إلى الله والرجوع إليه، فإن هذا أولى له من الاستمرار في باطله. نسأل الله السلامة.
♦ من الآية 16 إلى الآية 20: ﴿ لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ﴾: أي لا تحرك أيها النبي لسانك بالقرآن - وقت نزول الوحي عليك - لأجل أن تتعجل بحفظه (مَخافة أن يتفلَّت منك)، فـ ﴿ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ ﴾: يعني إنّ علينا جَمْعه في صدرك لتحفظه، ثم علينا تسهيل قراءته على لسانك ﴿ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ ﴾: يعني فإذا قرأه عليك رسولنا جبريل: ﴿ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ ﴾ أي استمِعْ لقراءته وأنصِت لها، ثم اقرأ القرآن كما قرأه ﴿ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴾ يعني: ثم إنّ علينا توضيح ما أُشكِل عليك فَهْمه من مَعانيه وأحكامه.
أولئك المقربون، رسول الله صلى الله عليه وآله وخديجة وعلي بن أبي طالب وذرياتهم تلحق بهم، يقول الله: ألحقنا بهم ذرياتهم، والمقربون يشربون من تسنيم بحتا صرفا وسائر المؤمنين ممزوجا. قال علي بن إبراهيم فمن ثم وصف المجرمين الذين كانوا يستهزئون بالمؤمنين ويضحكون منهم ويتغامزون عليهم فقال (ان الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون - إلى قوله - فكهين) قال يسخرون (وإذا رأوهم) يعني المؤمنين (قالوا إن هؤلاء لضالون) فقال الله (وما أرسلوا عليهم حافظين) ثم قال الله: (فاليوم) يعني يوم القيامة (الذين آمنوا من الكفار يضحكون على الأرائك ينظرون هل ثوب الكفار) يعني هل جوزي الكفار (ما كانوا يفعلون).
وقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: اللّوّامة: المذمومة. وقال قتادة: {اللّوّامة} الفاجرة. تفسير سورة القيامة - تفسير قوله أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى. قال ابن جريرٍ: وكلّ هذه الأقوال متقاربة المعنى، الأشبه بظاهر التّنزيل أنّها الّتي تلوم صاحبها على الخير والشّرّ وتندم على ما فات). [تفسير القرآن العظيم: 8/275-276] قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ نَاصِرٍ السّعْدِيُّ (ت: 1376هـ): ( {وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} وهي جميعُ النفوسِ الْخَيِّرَةِ والفاجرةِ، سُمِّيَتْ (لَوَّامَةً)؛ لكثرةِ تَرَدُّدِها وتَلَوُّمِها، وعَدَمِ ثُبوتِها على حالةٍ مِن أحوالِها, ولأنَّها عندَ الموتِ تَلُومُ صاحبَها على ما عَمِلَتْ، بل نفْسُ المؤمنِ تَلومُ صاحِبَها في الدنيا علَى ما حَصَلَ منه، مِن تَفريطٍ أو تَقصيرٍ في حَقٍّ مِن الحقوقِ، أو غَفلةٍ. فجَمَعَ بينَ الإقسامِ بالجزاءِ، وعلى الجزاءِ وبينَ مُسْتَحِقِّ الجزاءِ). [تيسير الكريم الرحمن: 898] قالَ مُحَمَّدُ سُلَيْمَان الأَشْقَرُ (1430هـ): (2 -{وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} أُقْسِمُ بالنفْسِ اللَّوَّامَةِ التي تَلومُ صاحبَها على تَقصيرِه، وهي نفْسُ المؤمنِ، تَلومُ على مافاتَ وتَنْدَمُ، فتَلُومُ نفْسَها على الشرِّ لِمَ تَعمَلُه، وعلى الخيرِ لِمَ لَمْ تَستكثِرْ منه.