صم بكم عمي

والقراءة التي هي القراءة ، الرفع دون النصب؛ لأنه ليس لأحد خلاف رسوم مصاحف المسلمين. وإذا قرئ نصبا كانت قراءة مخالفة رسم مصاحفهم. قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن المنافقين: أنهم باشترائهم الضلالة بالهدى لم يكونوا للهدى والحق مهتدين ، بل هم صم عنهما فلا يسمعونهما ، لغلبة خذلان الله عليهم ، بكم عن القيل بهما فلا ينطقون بهما ، والبكم: الخرس ، وهو جماع أبكم ، عمي عن أن يبصروهما فيعقلوهما ، لأن الله قد طبع على قلوبهم بنفاقهم فلا يهتدون. وبمثل ما قلنا في ذلك قال علماء أهل التأويل: 398 - حدثنا محمد بن حميد ، قال: حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، [ ص: 331] عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس: " صم بكم عمي " عن الخير. 399 - حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال: حدثنا عبد الله بن صالح ، قال: حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس: " صم بكم عمي " يقول: لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه ولا يعقلونه. 400 - حدثني موسى بن هارون ، قال: حدثنا عمرو بن حماد ، قال: حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: " بكم " هم الخرس.

صم بكم عمي فهم لا يتكلمون

فأيهما الأولى بالذمّ وكثرة الصفات السيئة؟ الذين في سورة البقرة، فهم جماعة واحدة، صم بكم عمي، وهم في الظلمات، فلا يمكن من الناحية البيانية وضع إحداهما مكان الأخرى، فهذا قانون بياني بلاغي.

صم بكم عمي فهم لا يرجعون آیه

2465 - حدثني موسى بن هارون قال: حدثنا عمرو بن حماد قال: حدثنا أسباط ، عن السدي: " صم بكم عمي " يقول: عن الحق. 2466 - حدثني المثنى قال: حدثنا أبو صالح قال: حدثني معاوية عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس: " صم بكم عمي " ، يقول: لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه ولا يعقلونه. وأما الرفع في قوله: " صم بكم عمي " ، فإنه أتاه من قبل الابتداء والاستئناف ، يدل على ذلك قوله: " فهم لا يعقلون " ، كما يقال في الكلام: " هو أصم لا يسمع ، وهو أبكم لا يتكلم ".

صم بكم عمي فهم

هذا التشبيه بصاحب النار الذي استوقدها، يكون باعتبار أن انتفاع هؤلاء في الدنيا بدعوى الإيمان شبيه بالنور، وأن عذابهم في الآخرة شبيه بالظلمة بعده، هذا ذكره بعض أهل العلم وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ.

صم بكم عمي فهم لا يبصرون

قال الشاعر: صُمٌّ إذا سَمِعوا خيرًا ذُكِرتُ به *** وإنْ ذُكِرتُ بسوء عندهم أَذِنُوا [1] بكم الألسنة لا ينطقون بالحق، ولا يسألون عنه، فكأنهم لا ينطقون.

صم بكم عمي فهم لا يرجعون

وفي قوله تعالى: ﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ﴾ [البقرة: 17] إشارة إلى أن المنافقين لما آمَنوا بألسنتهم ولم تؤمِن قلوبُهم، كان ما معهم من النور كالمستعار، وذلك إنما حصل لهم بسبب وجودهم بين ظهرانَي المؤمنين. وفي قوله: ﴿ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ﴾ [البقرة: 17] إشارة إلى أن النور لم ينفذ إلى قلوب هؤلاء المنافقين، وإنما كان خارجًا عنها؛ لذا لم يستفيدوا منه إلا استفادة ظاهرة مادية مؤقتة. وفي قوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ﴾ [البقرة: 17] تشبيه للمنافقين بمن حصلت له إضاءة ثم أعقبها ذهاب النور وتركهم في ظلمات لا يبصرون؛ لأن المنافقين آمنوا ثم كفروا، أو لأنهم آمنوا بألسنتهم وكفروا بقلوبهم، كما قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ﴾ [المنافقون: 3]. وفي قوله تعالى: ﴿ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ﴾ تأكيد لذهاب النور كلية عن هذا المستوقد ومن معه، وذهاب الإضاءة من باب أولى؛ لأنها ثمرة النور، ففيها تأكيد بانعدام النور كلية من قلوب هؤلاء المنافقين في الدنيا، فهم في حيرة واضطراب وشك وجهل وكفر، وهكذا حالهم في البرزخ وفي عرصات القيامة.

كما يُعطى المنافقون يوم القيامة بصيصًا من النور الظاهر يذهب وينطفئ على جسر جهنم أحوجَ ما كانوا إليه، فيَضِلُّون في أحْلَكِ الظلمات، ويكردسون في النار، قال تعالى: ﴿ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ ﴾ [الحديد: 13]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يعطي كلَّ مؤمن ومنافق نورًا، ثم يتبعونه، وعلى جسر جهنم كلاليبُ وحسك تأخذ من شاء الله تعالى، ثم يُطفَأ نور المنافقين، ثم ينجو المؤمنون)) [2].