الم يأن للذين امنوا ان تخشع قلوبهم

هؤلاء الذين أوتوا الكتاب ﴿ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ ﴾ [الحديد: 16]؛ أي: الوقت ﴿ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ [الحديد: 16]؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بُعِث بعد عيسى بستمائة سنة، وهي فترة طويلة انحرَفَ فيها مَن انحرَف من أهل الكتاب، ولم يبق على الأرض من أهل الحق إلا بقايا يسيرة من أهل الكتاب؛ ولهذا قال: ﴿ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [الحديد: 16]، ولم يقل: أكثرهم فاسقون، ولم يقل: كلهم فاسقون، فكثير منهم فاسقون؛ خارجون عن الحق. فحذَّر الله عز وجل ونهى أن نكون كهؤلاء الذين أوتوا الكتاب ﴿ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ [الحديد: 16]. وإذا نظرت إلى الأمَّة الإسلامية، وجدتَ أنها ارتكَبتْ ما ارتكَبَه الذين أوتوا الكتاب من قبل؛ فإن الأمة الإسلامية في هذه العصور التي طال فيها الأمدُ من بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، قسَتْ قلوبُ كثير منهم، وفسَق كثير منهم، واستولى على المسلمين من ليس أهلًا للولاية لفسقه؛ بل ومروقه عن الإسلام، فإن الذين لا يحكمون بكتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويَرَون أن الحكم بالقوانين أفضلُ من حكم الله ورسوله كفارٌ بلا شك، ومرتدُّون عن الإسلام.

  1. خطبة : ( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم ) - ملتقى الخطباء

خطبة : ( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم ) - ملتقى الخطباء

في الصورتين: إما نادر جدا أو ممتنع متعذر. وإنما يظهر هذا السماع، على هذا الوجه، حيث جرد كثير من أهل السلوك الكلام في المحبة ولهجوا بها، وأعرضوا عن الخشية. وقد كان السلف الصالح يحذرون منهم، ويفسقون من جرد، وأعرض عن الخشية إلى الزندقة. فإن أكثر ما جاءت به الرسل، وذكر في الكتاب والسنة: هو خشية الله وإجلاله وتعظيمه، وتعظيم حرماته وشعائره، وطاعته. والأغاني لا تحرك شيئا من ذلك، بل تحدث ضده من الرعونة والانبساط والشطح، ودعوى الوصول والقرب، أو دعوى الاختصاص بولاية الله التي نسب الله في كتابه دعواها إلى اليهود. فأما أهل الإيمان، فقد وصفهم بأنهم يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة وفسر ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنهم: "يصومون ويتصدقون، ويصلون ويخشون أن لا يتقبل منهم ". الم يان للذين امنوا ان تخشع قلوبهم خطبة. وقد كان الصحابة - رضي الله عنهم - يخافون النفاق على نفوسهم، حتى قال الحسن: ما أمن النفاق إلا منافق، ولا خشيه إلا مؤمن. [ ص: 385] ويوجب أيضا سماع الملاهي: النفرة عن سماع القرآن، كما أشار إليه الشافعي رحمه الله. وعدم حضور القلب عند سماعه، وقلة الانتفاع بسماعه. ويوجب أيضا قلة التعظيم لحرمات الله، فلا يكاد المدمن لسماع الملاهي، يشتد غضبه لمحارم الله تعالى إذا انتهكت، كما وصف الله تعالى المحبين له بأنهم أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ومفاسد الغناء كثيرة جدا.

وغاية ما تحركه هذه الأغاني: ما سكن في النفوس من المحبة، فتتحرك القلوب إلى محبوباتها، كائنة ما كانت، من مباح ومحرم وحق وباطل. والصادق من السامعين، قد يكون في قلبه محبة الله، مع ما ركز في الطباع من الهوى، فيكون الهوى كامنا، لظهور سلطان الإيمان. فتحركه الأغاني. مع المحبة الصحيحة. فيقوى الوجد، ويظن السامع، أن ذلك كله محبة الله. وليس كذلك. بل هي محبة ممزوجة ممتزجة، حقها بباطلها. وليس كل ما حرك الكامن في النفوس، يكون مباحا في حكم الله ورسوله. فإن الخمر تحرك الكامن في النفوس، وهي محرمة في حكم الله ورسوله كما قيل: الراح كالريح إن هبت على عطر. طابت وتخبث إن مرت على الجيف وهذا السماع المحظور، يسكر النفوس، كما يسكر الخمر أو أشد، ويصد [ ص: 384] عن ذكر الله، وعن الصلاة، كالخمر والميسر فإن فرض وجود رجل يسمعه، وهو ممتلئ قلبه بمحبة الله، لا يؤثر فيه شيء من دواعي الهوى بالكلية، لم يوجب ذلك له خصوصا، ولا للناس عموما. لأن أحكام الشريعة، تناط بالأعم الأغلب. والنادر ينسحب عليه حكم الغالب، كما لو فرض رجل تام العقل، بحيث لو شرب الخمر، لم يؤثر فيه ولم يقع فيه فساد، فإن ذلك لا يوجب إباحة الخمر له، ولا لغيره. على أن وجود هذا المفروض في الخارج.