سورة الرحمن روى الترمذي، عن محمد بن المنكدر، عن جابر رضي اللّه عنه قال: خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على أصحابه، فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها، فسكتوا فقال: (لقد قرأتها على الجن ليلة الجن، فكانوا أحسن مردوداً منكم، كنت كلما أتيت على قوله تعالى: { فبأي آلاء ربكما تكذبان} قالوا: لاشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد) ""أخرجه الترمذي ورواه الحافظ البزار وابن جرير بنحوه"". بسم اللّه الرحمن الرحيم تفسير الجلالين { في مقعد صدق} مجلس حق لا لغو فيه ولا تأثيم أريد به الجنس، وقرئ مقاعد، المعنى أنهم في مجالس من الجنات سالمة من اللغو والتأثيم بخلاف مجالس الدنيا فقلَّ أن تسلم من ذلك وأعرب هذا خبرا ثانيا وبدلا وهو صادق ببدل البعض وغيره { عند مليك} مثال مبالغة، أي عزيز الملك واسعه { مقتدر} قادر لا يعجزه شيء وهو الله تعالى وفيه إشارة إلى الرتبة والقربة من فضله تعالى. تفسير الطبري وَقَوْله: { فِي مَقْعَد صِدْق} يَقُول: فِي مَجْلِس حَقّ لَا لَغْو فِيهِ وَلَا تَأْثِيم { عِنْد مَلِيك مُقْتَدِر} يَقُول: عِنْد ذِي مُلْكٍ مُقْتَدِر عَلَى مَا يَشَاء, وَهُوَ اللَّه ذُو الْقُوَّة الْمَتِين, تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ (55) ( في مقعد صدق) في مجلس حق لا لغو فيه ولا تأثيم ( عند مليك مقتدر) ملك قادر لا يعجزه شيء. قال [ جعفر] الصادق: مدح الله المكان بالصدق فلا يقعد فيه إلا أهل الصدق.
وقد أكثر الله تعالى من إخبارنا في كتابنا عن مصير المتقين، وأعلمنا ربنا أن " وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ " [الزخرف: 35] وقال: " وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ " [الأعراف: 169]. وإنما كانت الأخرة للمتقين، لأن غير المتقين من الكفرة والمشركين والمنافقين يكونون في الموقف في بلاء عظيم، بينما يكون المتقون في ظل العرش، ثم يساق الكفار إلى النار " وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا " [الزمر: 71]. تفسير قوله تعالى: في مقعد صدق عند مليك مقتدر. أما المتقون الموحدون فيساقون إلى الجنة زمراً " وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا " [الزمر: 72] وأخبرنا ربنا عز وجل أن المتقين عندما يأتون الجنة تفتح لهم أبوابها، ويجدون الملائكة يرحبون بهم " حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامُ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ " [الزمر: 73]. وقد تحدث القرآن طويلاً عن جناب النعيم التي أعدها الله للمتقين، وتحدث عما أعده تبارك وتعالى فيها من النعيم، فمن ذلك قوله تعالى: " لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنْ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرُ بِالْعِبَادِ " [آل عمران: 15].
وقال تعالى ضارباً المثل للجنة التي وعد المتقون: " مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوا " [الرعد: 35] وقال سبحانه: " قُلْ أَذَلِكَ خَيْرُ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا " [الفرقان: 15] وقال: " إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ " [الحجر: 45- 46].
وقد ثبت في صحيح مسلم، عن عبد اللّه بن عمرو قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إن اللّه كتب مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة) زاد ابن وهب: { وكان عرشه على الماء} ""أخرجه مسلم والترمذي"".
آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ. وَقَوْله: { فِي مَقْعَد صِدْق} يَقُول: فِي مَجْلِس حَقّ لَا لَغْو فِيهِ وَلَا تَأْثِيم { عِنْد مَلِيك مُقْتَدِر} يَقُول: عِنْد ذِي مُلْكٍ مُقْتَدِر عَلَى مَا يَشَاء, وَهُوَ اللَّه ذُو الْقُوَّة الْمَتِين, تَبَارَكَ وَتَعَالَى. ' تفسير القرطبي قوله تعالى { وما أمرنا إلا واحدة} أي إلا مرة واحدة. { كلمح بالبصر} أي قضائي في خلقي أسرع من لمح البصر. واللمح النظر بالعجلة؛ يقال: لمح البرق ببصره. وفي الصحاح: لمحه وألمحه إذا أبصره بنظر خفيف، والاسم اللمحة، ولمح البرق والنجم لمحا أي لمع. قوله تعالى: { ولقد أهلكنا أشياعكم} أي أشباهكم في الكفر من الأمم الخالية. وقيل: أتباعكم وأعوانكم. { فهل من مدكر} أي من يتذكر. قوله تعالى { وكل شيء فعلوه في الزبر} أي جميع ما فعلته الأمم قبلهم من خير أو شر كان مكتوبا عليهم؛ وهذا بيان قوله { إنا كل شيء خلقناه بقدر}. { في الزبر} أي في اللوح المحفوظ. وقيل: في كتب الحفظة. وقيل: في أم الكتاب. { وكل صغير وكبير مستطر} أي كل ذنب كبير وصغير مكتوب على عامله قبل أن يفعله ليجازى به، ومكتوب إذا فعله؛ سطر يسطر سطرا كتب؛ واستطر مثله.