والحقيقة التى لا مساغ للريب فيها عندى هى أن هذا المذهب من الأكاذيب، فإنهم يقولون إن الغاية منه هى تصوير الشىء على حقيقته، وتلك لعمرى غاية كل شاعر وكاتب ومصور كائنًا من هذا الشاعر أو المصور، وما يستطيع أحد أن يعدل عن هذه الغاية، لأن العدول عنها يخالف قوانين العقل الإنسانى، فإن الأصل فى الفنون قاطبة، النظر كما أسلفنا، فإذا ابتكر الإنسان شيئًا فإنما يؤلف من أشتات الصور العالقة بذاكرته، وهذه الصور إنما حصلت بالنظر، فإذا رأيت شاعرًا أقرب إلى الحقائق من شاعر فلا تحسب أن هذا إنما كان هكذا لأن الأول مذهبه حسى والثانى تخيلى، فإن شيئًا من هذا لم يكن، وإنما السبب أن هذا أقدر من ذاك وأقوى ملاحظة. وهذا الذى نراه من الاختلاف فى المناهج بين شاعر وشاعر راجع إلى الاختلاف بين شخصيتيهما: هذا يستمد البواعث على الابتكار من ظواهر الطبيعة، وذاك يستمدها من نفسه.
وليس من فضل فى أن تأتى إلىّ بمعان أو صور كالزئبق لا تتمكن اليد منه، ولكن المزية كل المزية أن تجىء بما يحتمل النقد الصامت للتجربة العامة، وأن تسوق ما لا يضيره بل يزيده إشراقًا وصحة أن تواجهه بالحقائق. ونورد لك مثلًا لما نريد: قول شاعر قديم لا يحضرنى اسمه: بكت عينى اليسرى فلما زجرتها عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معًا فأين فيمن عرفنا وعرف أسلافنا وسيعرف من يأتى بعدنا، إنسان يبكى بعين ولا يبكى بالأخرى؟ ودرجات الحزن لا تُقاس بهذا، حتى إذا أمكن، فيكون المرء حزينا إذا بكت له عين واحدة، وحزينًا جدّا إذا فاضت كلتا عينيه بالدموع! ومبلغ الفجيعة لا يدل عليه هذا التكلف للمحال، وما كانت الدموع مظهر الشجى الوحيد والدليل الفذ عليه، حتى يشط القائل هذا الشطط كله ويخرج عن حدود الطبيعة. ومن شأن الحزن العميق أن يصرف النفس عن التصنع فضلًا عن هذا الإفحاش. فماذا صنج شاعرنا؟ هذا إلى أنه لم يأت بشىء معقول فى ذاته ولا مع التمحل والتكلف له. اكتشف أشهر فيديوهات كلام عن الخيال | TikTok. وأقنعنا أنه كاذب فيما زعم من الحزن والأسى وما أراد أن ينحل نفسه من صفات الرجولة. إذ كان لا ينافى الرجولة أن يبكى المرء، ولا يثبتها أن تجمد العين، لأن جمود العين قد يكون مرجعه إلى البلادة فى الإحساس لا إلى القدرة على ضبط النفس وحكمها.
كيف إذن نميط هذه الأوهام وننفى أذاها عن العقول ليتنزه الأدب عنها؟ من سوء الحظ أننا مضطرون فى مصر إلى أن نقيم الدليل حتى على البدائه، وأننا لو خلونا من هذا التكليف وارتفعت عنا مؤونته لاستطعنا أن نضرب بسهم فى ميدان الأدب وأن يكون لنا فيه عملٌ أجل وأضخم، ولكن البلاء فى مصر أنك تجد فيها أناسًا قليلين رفعتهم تربيتهم إلى مراتب الغربيين ونقلهم تهذيبهم إلى مستواهم، على حين ترتع بقية الأمة وتمرج فى بحبوحة الأمية. وعلى هؤلاء القليلين يقع عبءُ التهذيب العام ونشره! كلام عن الخيال العلمي. ومتى كانت الحاجة هى إلى المكاتب الأولية فمن الخرق أن تبدأ نشرَ التعليم بإقامة الجامعات! وليس هذا سوى مثل.. كذلك نحن. علينا أن نُسفَّ دائمًا إلى البدائه وأن نقص أجنحتنا حتى لا نحلق فى سماء الأدب حيث لا يرانا أحد ولا يحسنا ديَّار! ولا مفر لنا حين نكتب فى الخيال من أن ننحدر عن القمم السامقة إلى السهول المنبسطة التى تأخذها العين بنظرة، وأن نقرر أن الإنسان عاجز عن أن يتخيل ما لم ير ولم يعرف، وأن القدرة الفنية ليست فى الإغراب وتكلف المحال والإتيان بما لا يكون، بل فى حسن اختيار التفاصيل المميزة كما يقول «تين» فى فلسفة الفن، وإنه من أفحش الغلط أن يتوهم المرء أن إلفه الشىء يجعل تناوله إسفافًا ونبذه سموّا.
بنفسه، فإن القادر لا بد أن يقدر أن يفعل وحده مفعولاً لا يشركه فيه غيره، فإنه إذا كان لا يقدر إن لم يعاونه غيره، لم يكن قادراً بنفسه، بل كان تمام قدرته من ذلك المعنى له. ويمتنع أن يكون كل منهما لا يكون قادراً إلا بإعانة الآخر، فإن هذا بدون إعانة الآخر ليس بقادر، وهذا بدون إعانة الآخر ليس بقادر، فليس واحد منهما قادراً بنفسه، ومن لم يكن قادراً بنفسه امتنع أن يجعل غيره قادراً، فإنه إذا لم يكن القادر قادراً بنفسه، امتنع أن يجعل غيره قادراً بطريق الأولى، فلو لم يكن الوجود من هو قادر بنفسه، بمعنى أنه قادر على أن يستقل بالفعل، فيفعل وحده من غير شريك ومعين، لم يكن في الوجود حادث، لامتناع وجود الحوادث بدون القادر بنفسه. والحوادث مشهودة دلت على وجود القادر بنفسه، ويمتنع أن يكون في الوجود قادران على الاستقلال بالفعل، بحيث يكون كل منهما مستقلاً بالفعل وحده، فإنه إذا قدر ذلك، فحال ما يفعل أحدهما الفعل، يمتنع أن يكون الآخر قادراً على ذلك الفعل بعينه، فاعلاً له وحده، فإنه إذا فعله أحدهما وحده، لم يكن له شريك، فضلاً عن أن يفعله غيره مستقلاً، فتبين أنه حال ما يكون الشيء مقدوراً لقادر مستقل، أو مفعولاً لفاعل مستقل، لا يكون مقدوراً ولا مفعولاً لآخر مستقل.