ونفخ في الصور | صحيفة الخليج

فاستحق توحيد العبادة كل الاستحقاق. ثم إن ثبات الملكية للسماوات والأرض وما فيهما وما بينهما لله تعالى كاشف، معلن بأن كل ما سواه فهو له، ملكه، عبده، مفتقر إليه في كل لحظاته، وسكناته، في كل نفس يخرج من جوفه أو يدخل إليه. والعبودية لله تعالى تخرجك أيها الفقير من عبودية غيره، وتعطيك الحرية الحقيقية من رق الهوى، والنفس وشياطين الإنس والجن. ومن مدلولات الآية توحيد الأسماء والصفات، فالملك لهذا الكون بكل تفاصيله وأجرامه وبروجه، المتصرف فيه على هذا الوجه من الدقة والإحكام لا بد أن يكون قادرا عليما حكيما قويا عزيزا، إلى آخر صفات الكمال المتصف بها جل جلاله. اسم الملك الذي ينفخ في الصور يوم القيامة. إذ إن الكون وما فيه دليل وحدانيته وتفرده بالأسماء الحسنى والصفات العلى، قال إبراهيم (إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب، فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين). ومن مدلولات الآية تحقيق الخوف والرجاء، فالخوف من الملك لكل شيء القادر على كل شيء ورجاؤه ثمرة للمعرفة واليقين بأنه مالك السماوات والأرض وما فيهن، وهذا الضعيف المتفكر في ذلك جزء لا يكاد يعلم به أحد من أهل الأرض، ملك للملك الحق المبين. والملك لكل ذلك يطمع فيه أهل الفقر والضعف، ويخافه أهل الغفلة والذنوب، فيتحقق بالإيمان بذلك الملك خوفه ورجاؤه.

الملك الذي ينفخ في الصور

ومن ثمرات الآية معنى لو تأملته لحمدت أثره، وكسى ذهنك حبره، فمتى علمت أن (لله ما في السماوات وما في الأرض) لم يدخل الحسد قلبك، فالملك لله وحده، يعطي ويمنع ، فمن أعطاه الله شيئا فمن ملكه، ومن منعه الله شيئا فمن ملكه، ولست على ما في يد الله قادرا، وهذا من أنجع الأدوية للحسد إذ إن الحسد مبني على الاعتراض على حكمة الله تعالى في المنع والعطاء. وعلى العكس من ذلك، فالآية حاثة على الكرم والسخاء، وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، وما ذلك العطاء منه صلى الله عليه وآله وسلم إلا لأنه يوقن بأن (لله ما في السماوات وما في الأرض)، وأن خزائنه ملأى لا تغيضها النفقة، فينفق عبدُالملك ولا يخشى من ذي العرش إقلالا. ومن مدلولات الآية أن الحكيم المدبر لهذا الكون لم يخلقه عبثا، ولن يتركه سدى، فإليه المرجع والمعاد، ويوما ما ستمضي الخلائق إليه، وستقف بين يديه، فالمالك للسماوات والأرض المتصرف فيهما كيف يشاء حكيم عليم، والحكمة تقتضي الجزاء، فمن أخطأ عوقب، ومن أحسن فقد تعرض للثناء، ولما كان الناس في دنياهم يتظالمون، ويعرض بعضهم عن ربه، وبه يكفرون، ثم يموتون فكان من مقتضى الحكمة أن يجعل لهم موعدا فيه يختصمون، وتعرض أعمالهم ويتحاكمون ، فدلت الآية ضمنا، على يوم البعث، (وأن الساعة آتية لا ريب فيها، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون).

وأول من يبعث من بني آدم هو نبينا صلى الله عليه وسلم، وفي الصحيحين من حديث أبِي هُريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال لا تفضلوا بين أنبياء الله، فإنه ينفخ في الصور فيصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله. قال ثم ينفخ فيه أخرى، فأكون أول من بعث، أو في أول من بعث. فإذا موسى عليه السلام آخذ بالعرش فلا أدري أحوسب بصعقته يوم الطور، أو بعث قبلي، ولا أقول: إن أحداً أفضل من يونس بن متى عليه السلام، وروى مسلم في صحيحه عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنه صلى الله عليه وسلم قال: أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ القَبْرُ، وَأَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّع، وينادي مناد بين يدي الساعة، يا أيها الناس: أتتكم الساعة فيسمعها الأحياء والأموات، يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ.