عمير بن سعد

أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. إخوة الإيمان: كان غلاماً صغيراً، ويافعاً حصيفاً، نشأ أميناً وفياً، وعصاميّا ألمعياً, أسلمَ وهو صَغير، وأَحبَّ رسولَ اللهِ حباً -صلى الله عليه وسلم- مُنقطعَ النظير. حصَلَ له موقفٌ عَصِيبٌ، وامتحانٌ رَهيب، طُعنَ في شهادتِه وصدقِه، حتى تنزلت آيات القرآن لأجلِه. نقفُ مع خبرِ الفتى الشُّجاع، والقوَّالِ الصَّدَّاع، عمير بن سعد الأنصاري, له في السِيَرِ خبرٌ مَسْطور، ومَوقف مَشهودٌ مَذْكور، فيه ما فيه من المحبة والصدقِ والوفاءِ الكبيرِ، ما يغني عن كثير من الوعظ والتذكير. نشأ عميرٌ في كنف أمِّه التي فارقت أباه، وتزوجت الجُلاس بن سُويد أحد أثرياء الأوس, فتكفل الجُلاسُ بنُ سُويد بعمير بن سعد وآواه، وأحسن تربيته ورعاه، فأحبه عميرٌ؛ فقد عوَّضه غياب أبيه. أشرقت المدينة بمقدم رسول الله-صلى الله عليه وسلم-؛ فأشرق في نفس عمير وأمَّه الإيمانُ والتقوى، والنورُ والهدى، وامتلأ وجدانُ عميرٍ من حب محمد -صلى الله عليه وسلم- ودينه، والغيرةِ عليه، وفدائه بالغالي والنفيس.

عمير بن سعد - نسيج وحده

أتذكرون سعيد بن عامر. ذلك الزاهد العابد الأو اب الذي حمله أمير المؤمنين عمر على قبول امارة الشام وولايتها.. لقد تحدثنا عنه في كتابنا هذا٬ ورأينا من زهده وترفعه٬ ومن ورعه العجب كله.. وها نحن أولاء٬ نلتقي على هذه الصفات بأخ له٬ بل توأم٬ في الورع وفي الزهد٬ وفي الترفع.. وفي عظمة النفس التي تجل عن النظير. انه عمير بن سعد.. كان المسلمون يلقبونه نسيج وحده وناهيك برجل يجمع على تلقيبه بهذا اللقب أصحاب رسول الله٬ وبما معهم من فضل وفهم ونور. ** أبوه سعد القارئ رضي الله عنه.. شهد بدرا مع رسول الله والمشاهد بعدها.. وظل أمينا على العهد حتى لقي الله شهيدا في موقعة القادسية. ولقد اصطحب ابنه الى الرسول٬ فبايع النبي وأسلم.. ومنذ أسلم عمير وهو عابد مقيم في محراب الله. يهرب من الأضواء٬ ويفيئ الى سكينة الظلال. ه يهات أن تعثر عليه في الصفوف الأولى٬ الا أن تكون صلاة٬ فهو يرابط في صفها الأول ليأخذ ثواب السابقين.. والا أن يكون جهاد٬ فهو يهرول الى الصفوف الأولى٬ راجيا أن يكون من المستشهدين..! وفيما عدا هذا٬ فهو هناك عاكف على نفسه ينمي برها٬ وخيرها وصلاحها وتقاها. متبتل٬ ينشد أوبه. أواب٬ يبكي ذنبه مسافر الى الله في كل ظعن٬ وفي كل مقام.

فتربى من مدرسة محمد على أن الولاء يكون لله والرسول، ونهل من تربية نبيه -صلى الله عليه وسلم- أسس الأخلاق، وأساسها الصدق مع النفس، ومع الناس. في السنة العاشرة من الهجرة أعلن النبي -صلى الله عليه وسلم- للناس عزمه على المسير إلى تبوك للقاء الروم؛ فالسفر بعيد، والحر شديد، والثمار قد أينعت، والظلال قد طابت، حتى سمي ذلك بجيش العسرة؛ لبعد المسافة, وقلة الزاد. وجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يحث الناس على البذل في تجهيز الجيش, فلا تسل عن تسابق الصحابة في الاستجابة للدعوات المحمدية، حتى كانت المرأة تلقي بذهبها وخلاخلها في سبيل الله!. وعمير بن سعد يرى هذه الأيادي الباذلة، والمشاهد المبهجة، فأسرع إلى عمّه الجُلاس بن سويد وهو من الأثرياء، فحدّثه عمّا رأى من تنافس صحابة رسول الله وإنفاقهم للقليل والكثير في سبيل الله، وجعل عمير يستحث عمَّه الجلاسَ للإنفاق في سبيل الله. وإذا بالجُلاس بن سويد يصعق عميراً بكلمة كبيرة، أفقدته صوابه، وهزَّت وجدانه، ما ظنَّ من عمِّه الجلاس الذي يُظهر الإسلام أن يَتفوَّه بها يوماً، قال الجلاس: "يا عمير! إن كان محمداً صادقاً فيما يقول؛ فنحن شرٌّ من الحمير", إنها كلمة كاذبة خاطئة، وزفرة آثمة فاجرة، لا تحتمل إلا النفاق والكفر الصراح!.