جابرييل جارسيا ماركيز

ومن جديد، سيخفق «الأب» في التعامل مع الكائن القادم من عالمه (عالم الميتافيزيقا) تاركاً أمر السماء لأهل الأرض. السماء (كمكان تسقط منه المعجزات لتكتسب طابعاً أرضياً، أو ترتد إليه الشخصيات لتكتسب بعداً سماوياً يتحد بالخفي والمقدس)، تتجسد بحضورٍ طاغ وفاعل.. وبالتالي اكتسبت السماء عند ماركيز دوراً حقيقياً.. برز في عديد أعماله مثلما يبرز هنا. الملاك يسقط في بيت أسرة فقيرة بدلاً من الهبوط في أحد بيوت السلطة، ويحتسي طعامها في حين يفشل في العثور على لغة تجمعه برجل الدين. لقد تواصل مع الفقيرين في القصة عبر الغريزة «الجوع» فيما أخفق في التواصل مع السلطة عبر «الثقافة» ممثلةً في اللغة. ورغم أن السماء مملوكة «رمزيا» للسلطتين اللاهوتية والسياسية، (حيث تحضر السلطة السياسية في النص الماركيزي باعتبارها سلطة إلهية، في سياقات لم تفصل بعد بالكامل بين السلطتين) إلا أنها في عالم ماركيز تتعاطف مع «الرعية». افضل روايات غابرييل غارسيا ماركيز | المرسال. السماء مقابل الأرض، ثنائية دأب ماركيز على تقويضها، بحيث يصبح كل منهما وجهاً للآخر، وبحيث تصير السماء، في الأخير، مكاناً للبشر الهامشيين وليس لملاكها «الرسميين» أو المتحدثين باسمها.. حتى أنه في «مائة عام من العزلة» تتخلص ريميديوس ببساطة من الأرض بالتحليق.

افضل روايات غابرييل غارسيا ماركيز | المرسال

هذا المثلث، المهدد بفقدان ضلعه الثالث، يستقبل، لحظة ذروة الأزمة بالذات، ضلعاً جديداً (على مستوى التأويل الرمزي)، قد يضاف للأضلاع الثلاثة، أو يقلصها لاثنين، كونه أقرب لملاك قد يكون ملاك الموت. الطارئ هنا رجل عجوز ساقط من السماء بجناحين ضخمين. يأتي الضيف السماوي كنقيض كامل للطفلة الأرضية: إنه عجوز للغاية في مقابل سنها الصغيرة، ساقط من السماء لحظة اقترابها من الصعود لها كروح، معمر أمام حداثة عهدها بالحياة. في الحقيقة، اتكأ ماركيز كثيراً كروائي على فكرة «المثلث» الذي يتوتر ضلعه الثالث مشبعاً بدلالات الغياب والموت.. ليشتغل على الثالوث الذي يواجه طارئاً يتسبب في تحوله لثنائية، أو لتكثيره. (2) في واحدة من روايات ماركيز المبكرة، وهي «لا أحد يكتب للكولونيل»، ينفتح العالم الروائي على الزوج «الكولونيل المغدور» والزوجة والابن الميت الذي يستعاض عن غيابه رمزياً بحضور ديك المصارعة. إنه مثلث أسري أيضاً، فقد ضلعه الثالث الذي يمثل، مثلما تمثل الرضيعة المهددة بالموت، فكرة الامتداد المبتسر. ويكون البحث عن مخلِّص، معجزة، هو الموضوع السردي الذي يكرس له النص سياقه المقبل. في القصة يأتي المخلص من السماء، بينما ينتظر الكولونيل في الرواية قدومه من البحر، ممثلاً في الرسالة التي ستعيد إليه اعتباره وستحل جميع مشاكله بعد أن أصبح وزوجته، كبطلي قصتنا، من الفقراء.

(3) بدوره، يواجه مثلث الشخصيات مثلثاً آخر تبسطه الأبعاد المكانية التي يتوفر عليها عالم ماركيز السردي بوضوح: الأرض (سواء كانت بلدة غير مسماة على الإطلاق، كما في هذه القصة، أو بلدة مخترعة كماكوندو، أو مدينة قائمة في الواقع ككارتاخينا أو غيرها)، الماء (سواء تجسد كبحر أو نهر أو حتى كمستنقع)، والسماء. هذه العناصر الثلاثة كانت دائماً شغفاً لدى ماركيز، حد أنها لعبت أدواراً محورية في حبكاته الروائية.. فاليابسة، في الحقيقة، لم تكن أبداً البطل الوحيد مكانياً في أعمال ماركيز. في هذه القصة تتجسد الأمكنة الثلاثة مجلوة، في طبيعة أدوارها التي تلعبها عادةً في العالم الماركيزي. الأرض في القصة مجردة، بلدة صغيرة بلا اسم (وإن بدت متسقة للغاية مع صورة ماكوندو الروائية) لكنها تلخص أيضاً الشخوص الرئيسية التي طالما اتكأ عليها ماركيز في رسم عالمه: الهامشيون الفقراء الذين يستأثرون بالمعجزات (في العالم السردي لماركيز لا تأتي الهدايا للأثرياء أو رجال السلطة). هناك أيضاً «الأب» رجل الدين (وهو هنا أيضاً غير مسمى، في تعميق للمنحى الذي يجرده في دوره أو وظيفته)، إنه السلطة الكنسية التي يندر أن تختفي في أعمال ماركيز.. وهو الوسيط بين الأرض والسماء، لذا، توكل إليه مهمة تفسير الحدث الغامض والتعرف على هوية «الملاك»، حتى أنه يتحدث إليه باللاتينية.