لم اكن بدعائك ربي شقيا

كيف بمحبوب جاء يحمل إلينا الرحمة والبركات والعفو والمسرَّات والطمع في الجنة؟! كيف بمحبوب سلب قلوب الأتقياء والأصفياء فاستبشروا به وبشروا؟!

في قصص الأنبياء والصالحين المبثوثة في القرآن الكريم يجد المتدبر الكثير من الأدعية والابتهالات التي تترجم لواعج الأشواق إلى ملكوت الرحمن وحنين الأرواح إلى مصدرها السامي، ومبعث قوتها. وإذا اقتفينا أثر النبي صلى الله عليه وسلم و اتبعنا سنته في الأدعية المأثورة وتأملنا معانيها ودروسها التربوية لوجدنا أثرها البالغ في صلاح أنفسنا واستقامة سلوكنا وشحذ طاقاتنا للعمل والبناء. ومن توفيق الله للعبد أن يوفقه لملازمة الدعاء في السراء والضراء، فالدعاء هو القوة الموجهة للعبادة والعمل الصالح، والدعاء فنٌّ من فنون التواصل الروحي تجد فيه النفوس المؤمنة الطمأنينة واليقين والأمل والقوة والسعادة، وكل من يلازم الدعاء يجد بركته وأثره ويجد قلبه ولسانه يردد مع زكريا عليه السلام" وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا". والدعاء وسيلة من وسائل التربية للنفس، ووسيلة من وسائل التربية للأبناء بالدعاء لهم بالهداية ، و ينبغي تربية الأبناء علي الدعاء وحفظ الأدعية المأثورة المرتبطة بتفاصيل الحياة وتعليمهم ملازمة الأدعية المأثورة التي تجعلهم على اتصال بالله في جميع شؤون حياتهم. والدعاء وسيلة لتعزيز أواصر الأخوة والمحبة وكسب القلوب وإظهار الود، وقد حببنا الخالق عز وجل بالدعاء ونهانا عن الاستكبار عن عبادة الدعاء مع الوعيد الشديد" وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ" وأكد لنا أنه قريب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه" وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ" " رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ"

{ فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا} وهذه الولاية، ولاية الدين، وميراث النبوة والعلم والعمل، ولهذا قال: { يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا}. أي: عبدا صالحا ترضاه وتحببه إلى عبادك، والحاصل أنه سأل الله ولدا، ذكرا، صالحا، يبق بعد موته، ويكون وليا من بعده، ويكون نبيا مرضيا عند الله وعند خلقه، وهذا أفضل ما يكون من الأولاد، ومن رحمة الله بعبده، أن يرزقه ولدا صالحا، جامعا لمكارم الأخلاق ومحامد الشيم. فرحمه ربه واستجاب دعوته فقال: { يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا}.

رابعًا: في الدعاء حسن الظن بالله في قوله: (عفو تحب العفو) استشعار بأن الله كثير العفو؛ بل يحب العفو عن عباده، فيحسن المسلم ظنه بالله تعالى، ويقوى طمعه في عظيم عفوه، فينعم قلب المؤمن بالرجاء، كيف لا وهو يذكر قول ربه جلا وعلا: «أنا عند ظن عبدي بي إن خيرًا فخيرٌ وإن شرًّا فشرٌّ»؛ (رواه الطبراني بسند صحيح). وما أجمل توسُّل زكريا عليه السلام إلى ربه! بقوله: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} [مريم: 4]؛ أي: ولم أعهد منك يا رب إلَّا الإجابة في الدُّعاء، ولم ترُدَّني قطُّ فيما سألتُك، فلا تقطع عادتك، ولا تمنع جميلك، وكما لم أشْقَ بدعائي فيما مضى، فأنا على ثقة أني لن أشقى به فيما بقي، فلنطمع عباد الله في عفو الله ورحمته ومغفرته، ولنحسن الظن بربنا جل وعلا، ولنعمر قلوبنا بحبِّه سبحانه. علينا أن نستغل ما بقي من أيام هذا الشهر، فالأعمال بالخواتيم، ونحن نعيش أشرف الليالي والأيام، فكل الغبن أن نفرط فيها، قال ابن القيم رحمه الله: "والله سبحانه يعاقب من فتح له بابًا من الخير فلم ينتهزه بأن يحول بين قلبه وإرادته فلا يمكنه بعدُ من إرادته عقوبةً له". كونوا من أهل القيام والتهجُّد والذكر والدعاء والقرآن، عَمِّروا هذه الأوقات الشريفة، فقد لا تعود عليكم، فكم فقدنا من قريب وحبيب؟!

وهو العفو فعفوه وسع الورى *** لولاه غار الأرض بالسكان ثانيًا: أن التوسُّل باسم الله تعالى (العفو) من أعظم أسباب الفوز بعفوه سبحانه، فهو العفوُّ الذي يحب العفو والستر، ويصفح عن الذنوب مهما كان شأنها، ويستر العيوب، ولا يحب الجهر بها، يعفو عن المسيء كَرَمًا وإحسانًا، ويفتح واسع رحمته فضلًا وإنعامًا، فيطمع العبد في عظيم عفوه.