على الدنيا بعدك العفا

سماحة الشيخ محمّد صنقور هل قال الحسين للأكبر: "على الدنيا بعدك العفا" المسألة: ينقل الخطباء أنَّه عندما سقط عليٌّ الاكبر جاء اليه الامام الحسين (ع) وقال: على الدنيا بعدك العفا ياولدي. ماصحَّة هذه العبارة؟ وما المراد منها لو ثبت صدورها عنه؟ الجواب: نعم ذكر أكثرُ المؤرِّخين من الفريقين ممَّن أرَّخ لمقتل الحسين (ع) أنَّ تلك هي الكلمات التي أبَّنَ بها الإمامُ الحسين (ع) ولدَه حين وقفَ على مصرعِه فرآه مضرَّجاً بدمِه. فمن ذلك ما ورد في زيارة الناحية الخاصَّة بالشهداء المرويَّة عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) قال: "وأومِ وأشِرْ إلى عليِّ بن الحسين (ع) وقل: السلامُ عليك يا أولَ قتيلٍ من نسل خيرِ سليل، من سُلالة إبراهيم الخليل، صلَّى الله عليك وعلى أبيك، إذ قال فيك: قتل اللهُ قوماً قتلوك، يا بُني ما أجرأهم على الرحمن وعلى انتهاك حرمة الرسول، على الدنيا بعدك العفا"(1). ومنه: ما أورده الشيخ المفيد في كتاب الإرشاد قال: "فبصُرَ به مُرَّة بن مُنقذ العبدي فقال: علَيَّ آثام العرب إنْ مرَّ بي يفعل مثل ذلك إنْ لم أثكله أباه، فمرَّ يشتدُّ على الناس كما مرَّ في الأول، فاعترضَه مرَّةُ بن مُنقذ فطعنه فصُرع، واحتواه القوم فقطَّعوه بأسيافهم، فجاء الحسينُ (ع) حتى وقف عليه فقال: "قتل اللهُ قوماً قتلوك يا بُني، ما أجرأهم على الرحمن وعلى انتهاك حُرمة الرسول! "

  1. الإمام السجاد مخطاباً نحر عمّه: على الدنيا بعدك العفا يا قمر بني هاشم، وعليك منّي السلام من شهيدٍ محتسب

الإمام السجاد مخطاباً نحر عمّه: على الدنيا بعدك العفا يا قمر بني هاشم، وعليك منّي السلام من شهيدٍ محتسب

تُشير الروايات إلى أنّ الإمام زين العابدين(عليه السلام) بعد أن انتهى من دفن أبيه الإمام الحسين(عليه السلام)، مشى إلى عمّه العبّاس(عليه السلام) فرآه مقطوع الرأس والكفَّيْن وجسده مرمّلاً بدماء الجراح. وقع عليه يلثم نحره المقدّس قائلاً: (على الدنيا بعدك العفا يا قمر بني هاشم، وعليك منّي السلام من شهيدٍ محتسبٍ ورحمة الله وبركاته). وشقّ له ضريحاً وأنزله وحده كما فعل بأبيه الشهيد، وقال لبني أسد: (إنّ معي مَنْ يُعينُني)، وترك مساغاً لبني أسد بمشاركته في مواراة الشهداء، وعيّن لهم موضعين وأمَرَهم أن يحفروا حفرتَيْن، ووضع في الأُولى بني هاشم، وفي الثانية الأصحاب، وأمّا الحُرُّ الرياحيّ فأبعدته عشيرته إلى حيث مرقده خارج مدينة كربلاء.

وأمَّا ماهو المراد من قوله (ع): "على الدنيا بعدك العفا" فهو التعبير عن أنَّ عليَّاً الأكبر(ع) كان أعزَّ على نفسِه من نفسِه وأنَّ رؤيتَه لمصرعِه وأشلائه وهي موزَّعة ودمِه الزاكي مسفوحاً أشقُّ على قلبِه من كلِّ ما كان قد انتابَه من عظائم المِحن، بل صار القتلُ الذي ينتظرُه أيسرَ شيءٍ على قلبِه بعد رحيلِ الأكبر، وهذا هو معنى "على الدنيا بعدك العفا" فكلُّ خطيرٍ بعد رحيلِه حقير، وكلُّ عسيرٍ بعد رحيلِه يسير، فجراحاتُ الأكبر والدماءُ النازفةُ منها، ووقْعُ أنَّاته على قلبِ الحسين قد سكَّن كلَّ ألمٍ كان قد اِنتاب قلبَ الحسين وكلَّ ألمٍ سينتابُه، ذلك لأنَّ الجرح يُسكنُه الذي هو آلمُ. وأمَّا الغايةُ من هذا الذي أفاده في تأبين ولدِه الأكبر فلعلَّه أرادَ منه الإيحاء بأنَّ هذا الذي يحظى من قلبِه بهذا المستوى من التعلُّق والحبِّ قد سخى به في سبيل إعلاء دين الله جل وعلا، فكلُّ نفيسٍ يرخُص في هذا الطريق، فلم يكن رحيلُ الأكبر شهيداً وقعَ قسراً ودون إختيارٍ من الحسين (ع) فقد كان يملِكُ أنْ يصرفَ عنه هذا المصير الدامي لكنَّه لم يفعلْ بل عمِد إلى أنْ يكون هو السابق غيرَه إلى هذا الطريق. والحمد لله رب العالمين الشيخ محمد صنقور 1- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 45 ص 65.